ذكر ابراهيم بن محمد المعروف بـ " البيهقي " [ والمتوفى سنة 320هـ = 932م ] , في كتابه " المحاسن والمساوئ " أن :
" المفضل قال: كنت يوماً عند الصراة ببغداد , وكنت في الصحابة , فأتاني رسول المهدي فقال لي: أجب.
فخفت أن يكون ساعٍ سعى بي ، فدخلت منزلي ولبست ثيابي , وهممت أن أخبر أهلي ثم قلت: لم أعجل لهم الهمّ؟ , إن كان خير سيأتيهم , وإن كان غير ذلك فلا أكون عجّلته لهم .
فمضيت حتى دخلت عليه وأنا مرعوب , فسلمت عليه ورد السلام ، وإذا عنده الفضل بن الربيع وعلي بن يقطين وغيرهما , فقال : إن هؤلاء زعموا أنك أعلم الناس بالشعر , فأخبرني ما أشعر بيت قالته العرب؟ .
فوقعت في شيء لم أدر كيف هو , فجهدت والله أن أنشده بيتاً من شعر , فما قدرت عليه.
فقال لي: ما لك لا تتكلم؟ .
فجرى على لساني ذكر الخنساء , فقلت : لقد أحسنت الخنساء في قولها :
وإن صخراً لمولانا وسيدنا *** وإن صخراً إذا نشتوا لنحّار
وإن صخراً لتأتم الهداة به *** كأنه علم في رأسه نار
قال: فاستبشر بذلك ، وسر سروراً شديدا ً، ثم قال : أنت والله أعلم الناس , وقد قلت هذا لهؤلاء فأبوا عليّ .
فقال القوم: كان أمير المؤمنين أولى بالصواب .
فقال لي: يا مفضّل أسهرتني البارحة أبيات حسين بن مطير الأسدي .
قلت: وأي أبياته؟
قال قوله:
وقد تغدر الدنيا فيضحي غنيها *** فقيراً ويغنى بعد بؤسٍ فقيرها
وكم قد رأينا من تغير عيشةٍ *** وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها
قلت: مثل هذه فليسهرك يا أمير المؤمنين زادك الله توفيقاً وتسديداً! .
قال: حدثني يا مفضّل .
قلت: أي الأحاديث تحب؟ .
قال: أحاديث الأعراب.
فما زلت أحدثه حتى بلغت الشمس منه .
ثم قال : ما لك .
قلت: يا سيدي ما تسأل عن رجل مأخوذ بعشرة آلاف درهم ليست عنده! .
قال: عليك عشرة آلاف درهم؟ .
قلت: نعم .
فقال: يا ربيع احمل إليه عشرة آلاف درهم لقضاء دينه , وعشرة آلاف درهم يبني بها داره , وعشرة آلاف ينفقها على عياله .
فرجعت ومعي ثلاثون ألف درهم ".
أما قوله : " وكنت في الصحابة " , فقد قُصِدَ به خروجه مع " إبراهيم بن عبد الله ابن حسن بن حسن " رضي الله عنهم , على المهدي .
وقال ابن عبد ربه ـ [ المتوفى سنة 328هـ = 940م ] في كتابه " العقد الفريد " :
" واختلف الناس في أَشعر نصف بَيت قالته العربُ .
فقال بعضهم: قولُ أبي ذُؤيب الهُذلي:
والدهرُ ليس بمُعتب من يَجْزَع *** ...
وقال بعضهُم: قول حُميد بن ثَور الهِلاليّ:
نوكّل بالأدنى وإن جَلَّ ما يَمضي
وقال بعضهُم قول زُميل:
ومَن يَكُ رهناً للحوادث يَغلق
وهذا ما لا تُدرك غايته، ولا يُوقف على حده , والشعر لا يفوت به أحد ، ولا يأتي له بديع إلا أتى ما هو أبدعُ منه ، وللّه دَرّ القائل : أشعر الناس مَن أبدع في شعره .
ألا ترى مَروان بن أبي حَفصة ، على موضعه من الشعر وبُعد صِيته فيه ، ومَعرفته بغَثِّه وسَمِينه ، انشدوه لامرئ القَيس , فقال : هذا أشعرُ الناس ". أهـ
وعن أبي هلال العسكري ـ [ المتوفى سنة 395هـ = 1005م ] ـ , وفي كتابه " جمهرة الأمثال " أنه :
" سمع عمر رضي الله عنه أصحابه يتذاكرون الشعر ، فأقبل ابن عباس فقال: قد جاءكم ابن بجدتها .
وقال : يا بن عباس ، ما أشعر بيت قالته العرب؟ .
قال: قول زهير:
قوم سنان أبوهم حين تنسبهم *** طابوا فطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم *** قوم بآبائهم أو مجدهم قعدوا
محسدون على ما كان من نعم *** لا ينزع الله عنهم ماله حسدوا
إنس إذا أمنوا، جن إذا فزعوا *** مرزءون بها ليل إذا جهدوا
فقال عمر: ما أحد أولى بهذا الشعر منكم يا بني هاشم .
فقال ابن عباس: فينا ما هو أكبر منه ، كتاب الله والنبوة ". أهـ
وقال ابن رشيق الأندلسي ـ [ المتوفى سنة 463هـ = 1071م ] ـ في كتابه " العمدة في محاسن الشعر وآدابه ":
" روى الجمحي أن سائلاً سأل الفرزدق : من أشعر الناس؟ .
قال: ذو القروح , ( أي أمرأ القيس ).
قال: حين يقول ماذا؟ .
قال: حين يقول :
وقاهم جدهم ببني أبيهم *** وبالأشقين ما كان العقاب
وأما دعبل فقدمه بقوله في وصف عقاب:
ويلمها من هواء الجو طالبةً *** ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب
وهذا عنده أشعر بيت قالته العرب.
وسئل ليبد:
من أشعر الناس؟ .
قال: الملك الضليل ، ( أي امرأ القيس )
قيل: ثم من؟
قال: الشاب القتيل , ( أي طرفة بن العبد ).
قيل : ثم من؟ .
قال: الشيخ أبو عقيل يعني نفسه " .أهـ
وفي موضع ثاني من الكتاب , أنه :
" سأل أبو جعفر المنصور أبا دلامة فقال: أي بيت قالته العرب أشعر؟ .
قال: بيت يلعب به الصبيان .
قال: وما هو ذلك؟ .
قال: قول الشاعر:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا *** وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل ". أهـ
والبيت لأبي دلامة نفسه , لكن لو فتحت كتاب " معاهد التنصيص على شواهد التلخيص " تجد أن عبد الرحيم بن عبد الرحمن , والمعروف بـ " عبد الرحيم العباسي " و [ المتوفى سنة 963هـ = 1556م ] , أنه يذكر تفصيلا أكثر للرواية , مما يعطيها من الوضوح الشيء الكثير .
حيث تقصر رواية عبد الرحيم العباسي للقصة , شعرية البيت في المقابلة , وهو كما تعلم الجمع بين الشيء وضده , كما في بيت أبي دلامة , فقد جمع بين الحسن والقبح , والدين والكفر , والدنيا والإفلاس .
فقد ذكر أنه :
" ما أحسن الدينَ والدُّنيا إذا اجتمعا *** وأقبح الكفر والأفْلاَسَ بالرَّجُلِ
البيت من البسيط، ويعزى لأبي دلامة.
يحكى أن أبا جعفر المنصور سأل أبا دلامة عن أشعر بيت قالته العرب في المقابلة .
فقال: بيت يلعب به الصبيان .
قال: وما هو على ذاك؟ .
قال: قول الشاعر، وأنشده البيت.
قال ابن أبي الأصبع: لا خلاف في أنه لم يقل قبله مثله ، فإنه قابل بين أحسن وأقبح ، والدين والكفر، والدنيا والأفلاس ، وهو من مقابلة ثلاثة بثلاثة , وكلما كثر عدد المقابلة كانت أبلغ .
وأحسن من بيت أبي دلامة قول المتنبي من الطويل:
فلا الجودُ يفني المالَ والجدّ مقبلٌ *** ولا البخلُ يبقي المالَ والجدُّ مدبر ِ ". أهـ
يوسف بن عبد الله والمعروف بـ " ابن عبد البر القرطبي " , و [ المتوفى سنة 468هـ = 1071م ] , ذكر في كتابه " بهجة المجالس " أن :
" قال الحاتمي: أشعر بيت قالته العرب، قول امرئ القيس بن عانس لا ابن حجر:
اللّه أنجح ما طلبت به *** والبرّ خير حقيبة الرّحل
وأنشد ثعلب :
وإنّ أشعر بيت أنت قائله *** بيت يقال إذا أنشدته صدقا ". أهـ
وفي موضع ثاني من الكتاب , أنه :
" قال يونس بن حبيب: أشعر بيت قالته العرب، قول دريد بن الصمة:
قليل التشكي للمصيبات ذاكر *** من اليوم أعقاب الأحاديث من غد ". أهـ
وذكر أحمد بن محمد المعروف بـ " الميداني " ـ [ المتوفى سنة 518هـ = 1124م ]ـ في كتابه " مجمع الأمثال " أنه :
" سئل بشار المرعث: أي بيت قالته العرب أشعر؟.
قال: إن تفضيل بيت واحد على الشعر كله لشديد ، ولكن أحسن لبيد في قوله :
إكذب النفس إذا حدثتها *** إن صدق النفس يزري بالأمل ". أهـ
وذكر المظفر بن الفضل المعروف بـ " المظفر العلوي ـ [ المتوفى سنة 656هـ = 1358م ] ـ في كتابه " الإغريض في نصرة القريض " , رواية مشابهة لقصة المفضل الضبي مع الخليفة العباسي المهدي , حيث ذكر فيها أن القصة جرت للأصمعي , وأن الخليفة السائل هو هارون الرشيد , مع تفصيل يوضح الرواية أكثر , لأن روايته للقصة , تبين أن سؤال السائل كان عن أشعر بيت في التشبيه .
فقد قال "
" وحكى الأصمعيُّ قال: استدعاني الرشيدُ بعضَ الأيامِ فراعني رُسُلُه ، ولم أفتأْ أنْ مثُلْتُ بحَضرتِه ، وإذا في المجلس يحيى بن خالد وجعفر والفضل .
فاستدناني فدنوتُ، وتبيّن ما عَراني من الوجَل .
فقال: ليُفْرِخْ روْعُك ، فما أردْناكَ إلا لما يُراد له أمثالُك .
فمكثتُ الى أن ثابَتْ إليّ نفسي ، ثمّ بسَطني وقال: إني نازعتُ هؤلاء ـ وأشار الى يحيى وجعفر والفضل ـ في أشعَر بيت قالَتْه العربُ في التشبيه ، ولم يقعْ إجماعُنا على بيت يكون الإيماءُ إليه دون غيره ، فأردناك لفصْلِ هذه القضية واجتناء ثمَرةِ الخِطار .
فقلت: يا أمير المؤمنين، إن التعيينَ على بيت واحد في نوع واحد قد توسّعَتْ فيه الشعراء , ونصبَتْهُ مَعْلماً لأفكارها , ومَسرَحاً لخواطرِها ، لَبَعيدٌ أن يقعَ النصُّ عليه ، ولكنّ أحسن الشعراء تشبيهاً امرؤ القيس .
قال: في ماذا؟ .
قلت: في قوله:
كأنّ عُيونَ الوحشِ حول قِبابِنا *** وأرْحُلِنا الجَزْعُ الذي لم يُثَقَّبِ
وقوله:
كأنّ قلوبَ الطّيْرِ رَطْباً ويابساً *** لدى وَكرِها العُنّابُ والحشَفُ البالي
وقوله:
سَمَوْتُ إليها بعدَ ما نامَ أهلُها *** سُموَّ حَبابِ الماء حالاً على حالِ
قال: فالتفَت الرشيدُ الى يحيى , وقال : هذه واحدة ، فقد نصّ على امرئ القيس أنه أبرعُ الناس تشبيهاً ،
قال: فقال يحيى : هي لك يا أميرَ المؤمنين .
ثم قال الرشيد : فما أبْرَعُ تشبيهاتِه عندَك؟ .
قلت: قوله في صفة فرس:
كأنّ تشَوُّفَهُ في الضُحى *** تشوُّفُ أزرقَ ذي مِخْلبِ
إذا بُزَّ عنه جِلالٌ له *** تقولُ سَليبٌ ولم يُسلَبِ
قال الرشيد: هذا حسَن ، وأحسنُ منه قوله:
فرُحْنا بِكابْنِ الماءِ يُجنَبُ وسْطَنا *** تصَوَّبُ فيه العيْنُ طوراً وتَرْتَقي
فقال جعفر: هو التحكيم يا أميرَ المؤمنين .
قال: كيف؟ .
قال: ليَذْكُرْ أميرُ المؤمنين ما كان وقع اختيارُه عليه , ونحن نذكر ما اخترناه , ويكونُ الحُكْمُ واقعاً من بعد .
فقال الرّشيد: أغْرَضْتَ .
قال الأصمعي: فاستحسنتُها منه ، يقال: أغْرَضَ الرجلُ إذا قارب الصوابَ ..." إلى آخر القصة .
وذكر يوسف بن أحمد المعروف بـ " الحافظ اليغموري " ـ [ المتوفى سنة 673هـ = 1273م ] ـ في كتابه " نور القبس " , عن ابي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي , والمعروف بـ " ابن الأعرابي " أنه :
" قال: أشعرُ ما قيل في شدة الحر قولُ القُطامي :
فهُنَّ مُعترضاتٌ والحصى رمضٌ *** والريحُ ساكنةٌ والظلُ معتدلُ
حتى وَردْنَ ركيَّاِ الغويرِ وقد *** كاد المُلاء من الكتان يشتعلُ
وبيتُ جرير بن الخطفى "من الطويل":
أنِخْنَ لتغويرٍ وقدْ وقَدَ الحصى *** وذابَ لُعابُ الشمس فوق الجماجم ِ ". أهـ
قال عبد القادر البغدادي ـ [ المتوفى سنة 1093هـ = 1682م ] ـ في كتابه " خزانة الأدب " :
" في صحيح البخاري ومسلم , عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل
وفي رواية لهما: أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد.
وقد روي أيضاً بألفاظ مختلفة ، منها: إن أصدق كلمة .
ومنها : إن أصدق بيت قالها الشاعر .
ومنها : أصدق بيت قالته الشعراء .
وكلها في الصحيح , ومنها : أشعر كلمة قالتها العرب ". أهـ
وتمام البيت :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** وكل نعيم لا محالة زائل .
وذكر الحسن بن مسعود و المعروف بـ " اليوسي " , و [ المتوفى سنة 1103هـ = 1691م ] , في كتابه " المحاضرات في الأدب واللغة " , أنه :
" حدثوا في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه , قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : أشعر بيت قالته العرب قول دريد ابن الصمة:
قليل التشكي للمصيبات ذاكر *** من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
وقيل: قول أبي ذؤيب:
والنّفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقيل: قول زهير:
فلما وردن المساء زُرْقاً جمامُه *** وضعن عصيَّ الحاضر المتخيعم
وقيل: قول الآخر:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه *** فلما علاه قال للباطل ابعد
وقيل: قول لبيد:
وأكذب النفس إذا حدثتها *** إن صدق النفس يزري بالأمل
وقيل: قول امرؤ القيس:
ألا يا لهفَ هندٍ إثْرَ قوم ٍ *** همُ كانوا الشفاء فلم يصابوا
وقاهُمْ جَدُّهُم ببني أبيهِم *** وبالأشقّين ما كان العقاب
وأفْلتهنَّ عِلْباءٌ جريضاً *** ولوْ أدركنه صَفِرَ الوِطاب
وقيل: بل قوله:
اللهُ أنجَحُ ما طلبْتَ به *** والبِرّ خيرُ حقيبةِ الرَّحْلِ
وقوله أيضاً:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر *** ضعيف ولم يغلبك مثل مغلَّب ". أهـ
ـ المراجع :
ـ العقد الفريد : ابن عبد ربه الأندلسي .
ـ العمدة في محاسن الشعر وآدابه : ابن رشيق الأندلسي .
ـ المحاسن والمساوئ : البيهقي .
ـ المحاضرات في الأدب واللغة : اليوسي .
ـ الموسوعة الشعرية الإلكترونية : المجمع الثقافي 2003م .
- بهجة المَجالس وأنس المُجالس وشحن الذاهن والهاجس : ابن عبد البر القرطبي .
ـ جمهرة الأمثال : أبو هلال العسكري .
ـ خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب : عبد القادر البغدادي .
ـ مجمع الأمثال : الميداني .
ـ معاهد التنصيص على شواهد التلخيص : عبد الرحيم العباسي .
- نضرة الإغريض في نصرة القريض : المظفر العلوي .
- نور القبس : الحافظ اليغموري .