أبو ذُؤَيب الهذلي
? - 27 هـ / ? - 648 م
1ـ الشاعر :
خويلد بن خالد بن محرِّث أبو ذُؤيب من بني هذيل بن مدركة المضري.
قال عنه صاحب الأغاني :
" هو خويلد بن خالد بن محرث بن زبيد بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم
بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار.
وهو أحد المخضرمين ممن أدرك الجاهلية والإسلام ، وأسلم فحسن إسلامه.
ومات في غزاة إفريقية.
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال:
كان أبو ذؤيب شاعراً فحلا لا غميزة فيه ولا وهن .
وقال ابن سلام:
سئل حسان بن ثابت: من أشعر الناس؟ .
قال: أحيا أم رجلاً؟ .
قالوا: حيا .
قال: أشعر الناس حيا هذيل ، وأشعر هذيل غير مدافع أبو ذؤيب .
قال أبو زيد عمر بن شبة:
تقدم أبو ذؤيب جميع شعراء هذيل بقصيدته العينية التي يرثي فيها بنيه.
يعني قوله:
أمن المنون وريبه تتوجع *** والدهر ليس بمعتب من يخزع
وهذه يقولها في بنين له خمسة أصيبوا في عام واحد بالطاعون ورثاهم فيها.
عن الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال:
كان أبو ذؤيب الهذلي خرج في جند عبد الله بن سعد بن أبي سرح أحد بني عامر بن
لؤي إلى إفريقية سنة ست وعشرين غازياً إفرنجة في زمن عثمان.
فلما فتح عبد الله بن سعد إفريقية وما والاها بعث عبد الله بن الزبير - وكان في جنده-
بشيراً إلى عثمان بن عفان، وبعث معه نفراً فيهم أبو ذؤيب.
ففي عبد الله يقول أبو ذؤيب:
فصاحب صدق كسيد الضرا *** ء ينهض في الغزو نهضاً نجيحاً
في قصيدة له.
فلما قدموا مصر مات أبو ذؤيب بها "أهـ بتصرف.
قال البغدادي :
" وهلك هو في زمن عثمان رضي الله عنه في طريق مصر، ودفنه ابن الزبير.
وقال أبو عمرو الشيباني: مات في طريق إفريقية.
وهو شاعر فحل مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام.
وهو أشعر هذيل من غير مدافعة.
وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته , فمات النبي صلى الله عليه وسلم قبل قدومه بليلة ، أدركه وهو مسجى ، وصلى عليه وشهد دفنه صلى الله عليه وسلم .
وحكى عن نفسه قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل ، وأوجس أهل الحي خيفة واستشعرت حرباً ، فبت بليلة طويلة حتى إذا كان وقت السحر هتف الهاتف
يقول: "الكامل"
خطب أجل أناخ بالإسلام *** بين النخيل ومقعد الآطام
قبض النبي محمد فعيوننا *** تذري الدموع عليه بالتسجام
فوثبت من نومي فزعاً فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح ، فتفاءلت به ذبحا يقع في الإسلام ، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض".أهـ
2ـ مناسبة القصيدة :
قال الخالديان ـ شيخا بلدة الخالدية بالعراق , أبو بكر وأبوعثمان ـ في كتابيهما " الأشباه والنظائر " :
" ومن مشهرورات المراثي وجيادها قصيدة أبي ذؤيب الهذلي يرثي بنيه ". أهـ
فكما ذكر الخالديان , وما مرّ معك في الترجمة , فالشاعر رثى بنيه في هذه القصيدة , قال ابن عبد البر في كتابه " الاستعاب في معرفة الأصحاب ":
" والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا ترد إلى قليل تقنع
وهذا البيت من شعره المفضل الذي يرثي فيه بنيه وكانوا خمسة أصيبوا في عام واحد وفيه حكم وشواهد "
وهذا ما ذكره عبد الرحمن العباسي في كتابه " معاهد التنصيص " حيث قال :
" قالها وقد هلك له خمس بنين في عام واحد ، وكانوا فيمن هاجر إلى مصر، فرثاهم بهذه القصيدة، وأولها:
أمنَ المنونِ وَرَيبها تتوجَعُ *** والدهرُ ليْسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزعُ
قالتْ أُمامةُ ما لجسمكَ شاحباً *** منذُ ابتذلتَ ومثلُ مالكَ ينفعُ " أهـ.
غير أن ابن شرف في رسائله " رسائل الانتقاد " ذكر أن أولاد أبي ذؤيب كانوا سبعة , حيث قال :
" وأما أبو ذؤيبٌ فشديد ، أمير الشعر حكيمه ُ، شغله فيه التجريبُ حديثه وقديمه ؛ وله المرثية النقية السبك ، المتينة الحبك ؛ بكى فيها بنيه السبعة ، ووصف الحمار فطوَّل ".أهـ
وكذلك صاحب " العقد الفريد " , فقد قال :
"وقال أبو ذُؤيب الهُذلي ، وكان له أولادٌ سبعة فماتوا كلّهم إلا طفل ا، فقال يرثيهم :
أمِنَ المَنون وَرَيْبه نَتَوجع *** والدَهر ليس بمًعْتِب من يَجْزَعُ ( القصيدة )" . أهـ
أما وهب بن منبه في كتابه " التيجان في ملوك حمير " , فقد أوصل العدد إلى عشرة أبناء , وذكر أسماءهم وسبب قتلهم , وفي القصة ما يدل على ان قتلهم كان في الجاهلية , وقبل الإسلام , حيث قال :
" قال أبو محمد: فمن يوم ذي قار الأول صارت هذيل والقارة ولحيان أقل حي في مضر.
فلما انصرف الهجال - وكان حَرّم على نفسه الخمر حتى ينتقم لخاله تأبط شراً - .
قال الهجال بن امرئ القيس يرثى خاله:
أطرفك مأموم أم الوجد مانع *** أم الأشوس الفتاك عن ذك شاسع
فمتى كان شهم النفس للذل دافع *** وإن سيل عرفا فهو بالجود نافع
يشيم يروق الموت عن كل مأزق *** ويسرع إقداماً إذا لاح لامع ( القصيدة ) .
ثم قال أيضاً:
إن بالشعب الذي جند سلع *** لقتيل دمه ما يطل
قذف العبء على وولي *** أنا بالعبء له مستقل
ووراء الثأر مني ابن أخت *** مصع عقدته ما تحل ( القصيدة ) .
فأتى عامر بن الظرب بجميع عدوان إلى هذيل والقارة ولحيان وقد قتلوا , فقال لهم شهاب بن أبي ذؤيب: كان الموت أقرب من نصركم يا قومنا .
فقال عامر بن الظرب: اقسم بالله قسماً حقا لأطلين بوتركم كل واتر.
وتركهم فسار بنو خزيمة ، فقال شهاب بن أبي ذؤيب لقوم بني أسد:
أكل بني الشقيقة قد أطاعوا *** على خذلاننا عمرو بن بكر
لقد عدلوا برأي أبي ذؤيب *** وقد جهلوه رأي أبي الهزبر
سيحملهم بذاك على هلاك *** بجعجاع لدى ضنك ووعر
سيبلغ عنهم قابوس أمر *** يعز على بني سعد بن مر
جلبت بفعلهم صبراً وحسبي *** بما ألقى به من مر صبري
بنو شكل أضاعوني ولما *** يروا نصراً يعزهم كنصري
أضاعوني وأي فتى أضاعوا *** ليوم كريهة وسداد ثغر
ولو بعده أو قول ليت *** على لهف وما شفع كوتر
فلم يجبه بنو أسد بشيء.
فسار شهاب بن أبي ذؤيب مع أخوته يريدون بني طابخة - وكان بني أبي ذؤيب عشرة , شهاب , والحارث , وزهير , والأزهر , والأزور , وعمرو , وعامر , وسالم ، والقسور , وسهيل - .
ركبوا خيلهم في درعهم ومغافرهم حتى بلغوا موضعاً يقال له ذات الهجال من أرض بني أسد , فغشيهم الليل فنزلوا وهم في حزن من الأرض .
وهم نازلون إلى أن أقبل قانص من بني أسد , ومعه كلاب له وهو سباق بن سابق بن بكر ابن أخي عمرو بن بكر، وقد أرسل سباق الأسدي كلابه على ظبي , والكلاب في طلبه.
فلما مر بين أيديهم رموه بالنبل فعقروا الظبي وأصاب سهم كلباً من كلاب سباق الأسدي فقتله - فأتى الأسدي فأصاب كلبه مقتولاً فأغلظ على بني أبي ذؤيب - , فقال له شهاب بن ابي ذؤيب: يا سباق أردنا الظبي والسهم يخطئ ويصيب .
فتمادى الأسدي في غضبه وبطش علي الأزور بن ذؤيب فضربه بالسيف فألقى إليه المجن , وضربه الأزور بالقوس فشجه في رأسه , فولى ودمه يهطل على وجهه , فسار حتى هجم على بني عمه عمرو بن بكر , وهم على خمر لهم وميسر .
فقال لهم : أترضون بالذل وتقرون للضيم ، أما والله ما أعلم أذل من قوم أتى ناديهم بنو أبي ذؤيب فضامومهم .
فألهبهم حمية وأسعرهم لهباً , فركب بنو عمرو ابن بكر , واستنفروا بني أسد وأجابوهم , وساروا يأخذون على بني أبي ذؤيب الشعاب ليلاً , وبنو أبي ذؤيب لايدرون بذلك.
فلما أصبح نهضوا إليهم . فنقر من بين أيديهم ظبي أعضب فمر عليهم وهجم في غيضه اثل وضال، ثم ظهر إليهم جمل أجرب عليه رجل أعور .
فقال شهاب بن أبي ذؤيب - وكان زاجراً شاعراً - : اركبوا فإن هذا ظبي أعضب عضب أمركم ، وجمل أجرب جرب دهركم ، ورجل منقوص مقص جمعكم ، وسلك الظبي أثلاً وضالا , يمر يومكم ويشوك جمع آتاكم , وقال شعراً:
قل لركب السرى بذات الهجال *** احذروا من مصارع الآجال
أيها النائمون هبوا فهذا *** أعضب بارح بأثل وضال
زجر الزاجر المترجم أمراً *** روعة الظبي عيلة الاقيال
ورأى أثله من الخطب مرا *** وشبا ضاله صدور العوالي
إنني والذي يحج له النا *** س حليف الهموم والأوجال
يا تراث الأيام لا تأمنوها *** واحذروا مكرها وصرف الليالي
وخذوا من أخي التجارب نصحا *** وأفيقوا من نومة الجهال
اركبوا مسرعين حتى وإلا *** صرتم بعدها كقيل وقال
ثم آتاهم بنو أسد بالعدد , وتداعى عليهم بنو أسد , وعطف عليهم شهاب ابن أبي ذؤيب يناشدهم الله والرحم.
قالوا له: تركت العفو خلفك وأناخ الموت فرسك .
فكان يعطف عليهم ولا يضرب، وتكاثرت عليهم بنو أسد فأصيب أخوه الحارث.
فلما رأى أن الحارث قتل قال: يا بني أبي ذؤيب لا ينقذكم من شر اليوم إلا اليأس من غد .
ثم هجم فأدرك فارساً لبني أسد فصرعه ، ثم يكر القوم فقتلوا من بني أسد نفراً.
فلم يزل بنو أسد - وقد أخذوا عليهم الشعاب - يتكاثرون عليهم بالخيل والرجل، وبنو أبي ذؤيب يسقطون واحداً بعد واحد حتى قتلوا العشرة ، وأخذوا خيلهم وسلاحهم.
وبلغ ذلك أبا ذؤيب وعامر بن الظرب فركبا في هذيل وعدوان , حتى رفعوهم وأتوا بهم - وكان إذا مات الشريف لا يدفن حتى يحضره أشراف العرب ورؤساؤهم من كل أوب , فنصب أبو ذؤيب على أولاده قبة على شرف , ونصب عليهم لواء .
فآتاه أشراف الناس من كل قبيل من العرب , وآتاه قابوس بن النعمان الأكبر بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمير بن نمارة ابن لخم , وكان قابوس ملكاً بالمشلل - فجمع جيشاً عظيماً وأتى أبا ذؤيب.
فلما اجتمع الناس إلى أبي ذؤيب فدم بنيه فنصبهم ووقف عليهم ، وأنشأ يقول:
أمن المنون وريبه تتوجع *** والدهر ليس بمعتب من يجزع
إلى آخرها ".أنتهى بتصرف
أما البكري وابن حجة الحموي فقد ذكرا أنه :
" يرثى بنين له ماتوا في عام واحد بالطاعون " .أهـ
واللفظ للبكري .
اليافعي قال :
" وهذان البيتان من جملة قصيدة طويلة لأبي ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي ، يرثي بها بنيه ، وكان قد هلك له خمس بنين في عام واحد بالطاعون في طريق مصر، وقيل في طريق إفريقية، وقيل في طريق المغرب، ثم هلك هو بعدهم " . أهـ
والبيتان الذي قصدهما :
وتجلدي للشامتين أريهم *** أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها *** الفيت كل تميمة لا تنفع
فالراجح ـ والله أعلم ـ ما ذهب إليه الأغلبية , على أنهم خمسة , وقد ماتوا بالطاعون في طريق مصر .
أما قدر القصيدة في باب المراثي فقد مر معك بعض ذلك التقدير لها , قال ابو منصور الثعالبي في كتابه " الإعجاز والإيجاز " :
" قيل أن هذيل أشعر قبائل العرب , وأبا ذؤيب أشعر هذيل , وأمير شعره وغرة كلامه قصيدته في الرثاء التي أولها:
أمن المنون وريبها تتوجع *** والدهر ليس بمعتب من يجزع
وأعمر بيوتها قوله:
والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا ترد إلى قليل تقنع
وكان يقول الأصمعي: هو أبرع بيت للعرب وأحسن ما في القصيدة قوله:
وتجلدي للشامتين أريهم *** إني لريب الدهر لا أتضعضع
فإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيت كل تميمة لا تنفع ". أهـ
وأما في كتابه " خاص الخاص " فقد ذكر انه :
" قال خلف الأحمر: بنو هذيل من أشعر قبائل الرب، وأشعرهم أبو ذويب وأمير
شعره وغرة كلامه قصيدته التي أولها:
آمن المنون وريبه تتوجع *** والدهر ليس بمعتب من يجزع
وبيت القصيدة قوله:
والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا ترد إلى قليل تقنع
وأحسن باقيها بعده قوله:
وتجلدي للشامتين أريهم *** أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيت كل تميمة لا تنفع
وقد كانت الناس تتأسى بها , إذا أصابتها مصيبة , وخير مثال على ذلك ما ذكره المبرد في " التعازي والمراثي " فقد قال :
" والشيء يذكر بالشيء:
يروى أن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمهما الله دخل على معاوية وهو في علة له غليظة .
فقال معاوية : ساندوني ثم تمثل بهذا البيت:
وتجلّدي للشامتين أريهم *** أني لريب الدهر لا أتضعضع
فسلم الحسين رحمه الله ثم تمثل:
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها *** ألفيت كلّ تميمةٍ لا تنفع
فاستظرف الجواب كون البيتين من قصيدة واحدة ".أهـ
وذكر الأصفهاني في كتابه الأغاني , أنه :
" لما مات جعفر بن المنصور الأكبر , مشى المنصور في جنازته من المدينة إلى مقابر قريش ، ومشى الناس أجمعون معه حتى دفنه ، ثم انصرف إلى قصره .
ثم أقبل على الربيع فقال : يا ربيع ، انظر من في أهلي ينشدني :
أمن المنون وريبها تتوجع ...
حتى أتسلى بها عن مصيبتي.
قال الربيع: فخرجت إلى بني هاشم وهم بأجمعهم حضور ، فسألتهم عنها ، فلم يكن فيهم أحد يحفظها ، فرجعت فأخبرته .
فقال: والله لمصيبتي بأهل بيتي ألا يكون فيهم أحد يحفظ هذا , لقلة رغبتهم في الأدب , أعظم وأشد علي من مصيبتي بابني .
ثم قال: انظر هل في القواد والعوام من الجند من يعرفها ، فإني أحب أن أسمعها من إنسان ينشدها .
فخرجت فاعترضت الناس , فلم أجد أحدا ينشدها إلا شيخاً كبيراً مؤدباً , قد انصرف من موضع تأديبه ، فسألته : هل تحفظ شيئاً من الشعر ؟ .
فقال: نعم، شعر أبي ذؤيب .
فقلت: أنشدني .
فابتدأ هذه القصيدة العينية .
فقلت له: أنت بغيتي .
ثم أوصلته إلى المنصور فاستنشده إياها .
فلما قال:
... *** والدهر ليس بمعتب من يجزع
قال: صدق والله، فأنشدني هذا البيت مائة مرة ليتردد هذا المصراع علي .
فأنشده، ثم مر فيها , فلما انتهى إلى قوله :
والدهر لا يبقى على حدثانه *** جون السراة له جدائد أربع
قال: سلا أبو ذؤيب عند هذا القول.
ثم أمر الشيخ بالانصراف , فاتبعته فقلت له: أأمر لك أمير المؤمنين بشيء؟ .
فأراني صرة في يده فيها مائة درهم ".
وكذلك ما ذكره
واقتبس منها الشعراء , فقد قال أحدهم
لكم بها كل ما تبغون من أمل *** ومن نعيم فإن الحق قد وجبا
أمن المنون وريبه تتوجع *** والدهر ليس بمعتب من يجزع
أتجزع أن نفس أتاها حمامها *** فهلا التي عن بين جنبيك تدفع
خلاصة الكلام , أن القصيدة تكاد تكون أحسن ما قيل في المراثي , وتعد من غرر الشعر العربي , ولا تحتاج للتدليل على صدقها , فمناسبة القصيدة تكفي على ذلك .
وقد نالت شهرة عظيمة , واستحسانا عند نقاد الشعر , واهتماما كبيرا بها , وتكاد لا تخلو أي مختارة من مختارات الشعر العربي منها .
3 ـ القصيدة : " من الكامل "
أَمِنَ المَنونِ وَريبِها تَتَوَجَّعُ *** وَالدَهرُ لَيسَ بِمُعتِبٍ مِن يَجزَعُ
قالَت أُمَيمَةُ ما لِجِسمِكَ شاحِباً *** مُنذُ اِبتَذَلتَ وَمِثلُ مالِكَ يَنفَعُ
أَم ما لِجَنبِكَ لا يُلائِمُ مَضجَعاً *** إِلّا أَقَضَّ عَلَيكَ ذاكَ المَضجَعُ
فَأَجَبتُها أَن ما لِجِسمِيَ أَنَّهُ *** أَودى بَنِيَّ مِنَ البِلادِ فَوَدَّعوا
أَودى بَنِيَّ وَأَعقَبوني غُصَّةً *** بَعدَ الرُقادِ وَعَبرَةً لا تُقلِعُ
سَبَقوا هَوَىَّ وَأَعنَقوا لِهَواهُمُ *** فَتُخُرِّموا وَلِكُلِّ جَنبٍ مَصرَعُ
فَغَبَرتُ بَعدَهُمُ بِعَيشٍ ناصِبٍ *** وَإَخالُ أَنّي لاحِقٌ مُستَتبَعُ
وَلَقَد حَرِصتُ بِأَن أُدافِعَ عَنهُمُ *** فَإِذا المَنِيِّةُ أَقبَلَت لا تُدفَعُ
وَإِذا المَنِيَّةُ أَنشَبَت أَظفارَها *** أَلفَيتَ كُلَّ تَميمَةٍ لا تَنفَعُ
فَالعَينُ بَعدَهُمُ كَأَنَّ حِداقَها *** سُمِلَت بشَوكٍ فَهِيَ عورٌ تَدمَعُ
حَتّى كَأَنّي لِلحَوادِثِ مَروَةٌ *** بِصَفا المُشَرَّقِ كُلَّ يَومٍ تُقرَعُ
لا بُدَّ مِن تَلَفٍ مُقيمٍ فَاِنتَظِر *** أَبِأَرضِ قَومِكَ أَم بِأُخرى المَصرَعُ
وَلَقَد أَرى أَنَّ البُكاءَ سَفاهَةٌ *** وَلَسَوفَ يولَعُ بِالبُكا مِن يَفجَعُ
وَليَأتِيَنَّ عَلَيكَ يَومٌ مَرَّةً *** يُبكى عَلَيكَ مُقَنَّعاً لا تَسمَعُ
وَتَجَلُّدي لِلشامِتينَ أُريهِمُ *** أَنّي لَرَيبِ الدَهرِ لا أَتَضَعضَعُ
وَالنَفسُ راغِبِةٌ إِذا رَغَّبتَها *** فَإِذا تُرَدُّ إِلى قَليلٍ تَقنَعُ
كَم مِن جَميعِ الشَملِ مُلتَئِمُ الهَوى*** باتوا بِعَيشٍ ناعِمٍ فَتَصَدَّعوا
فَلَئِن بِهِم فَجَعَ الزَمانُ وَرَيبُهُ *** إِنّي بِأَهلِ مَوَدَّتي لَمُفَجَّعُ
وَالدَهرُ لا يَبقى عَلى حَدَثانِهِ *** في رَأسِ شاهِقَةٍ أَعَزُّ مُمَنَّعُ
وَالدَهرُ لا يَبقى عَلى حَدَثانِهِ *** جَونُ السَراةِ لَهُ جَدائِدُ أَربَعُ
صَخِبُ الشَوارِبِ لا يَزالُ كَأَنَّهُ *** عَبدٌ لِآلِ أَبي رَبيعَةَ مُسبَعُ
أَكَلَ الجَميمَ وَطاوَعَتهُ سَمحَجٌ *** مِثلُ القَناةِ وَأَزعَلَتهُ الأَمرُعُُ
بِقَرارِ قيعانٍ سَقاها وابِلٌ *** واهٍ فَأَثجَمَ بُرهَةً لا يُقلِعُ
فَلَبِثنَ حيناً يَعتَلِجنَ بِرَوضَةٍ *** فَيَجِدُّ حيناً في العِلاجِ وَيَشمَعُ
حَتّى إِذا جَزَرَت مِياهُ رُزونِهِ *** وَبِأَيِّ حينِ مِلاوَةٍ تَتَقَطَّعُ
ذَكَرَ الوُرودَ بِها وَشاقى أَمرَهُ *** شُؤمٌ وَأَقبَلَ حَينُهُ يَتَتَبَّعُ
فَاِفتَنَّهُنَّ مِن السَواءِ وَماؤُهُ *** بِثرٌ وَعانَدَهُ طَريقٌ مَهيَعُ
فَكَأَنَّها بِالجِزعِ بَينَ يُنابِعٍ *** وَأولاتِ ذي العَرجاءِ نَهبٌ مُجمَعُ
وَكَأَنَّهُنَّ رَبابَةٌ وَكَأَنَّهُ *** يَسَرٌ يُفيضُ عَلى القِداحِ وَيَصدَعُ
وَكَأَنَّما هُوَ مِدوَسٌ مُتَقَلِّبٌ *** في الكَفِّ إِلّا أَنَّهُ هُوَ أَضلَعُ
فَوَرَدنَ وَالعَيّوقُ مَقعَدَ رابِىءِ الض *** ضُرَباءِ فَوقَ النَظمِ لا يَتَتَلَّعُ
فَشَرَعنَ في حَجَراتِ عَذبٍ بارِدٍ *** حَصِبِ البِطاحِ تَغيبُ فيهِ الأَكرُعُ
فَشَرِبنَ ثُمَّ سَمِعنَ حِسّاً دونَهُ *** شَرَفُ الحِجابِ وَرَيبَ قَرعٍ يُقرَعُ
وَنَميمَةً مِن قانِصٍ مُتَلَبِّبٍ *** في كَفِّهِ جَشءٌ أَجَشُّ وَأَقطُعُ
فَنَكِرنَهُ فَنَفَرنَ وَاِمتَرَسَت بِهِ *** سَطعاءُ هادِيَةٌ وَهادٍ جُرشُعُ
فَرَمى فَأَنفَذَ مِن نَجودٍ عائِطٍ *** سَهماً فَخَرَّ وَريشُهُ مُتَصَمِّعُ
فَبَدا لَهُ أَقرابُ هذا رائِغاً *** عَجِلاً فَعَيَّثَ في الكِنانَةِ يُرجِعُ
فَرَمى فَأَلحَقَ صاعِدِيّاً مِطحَراً *** بِالكَشحِ فَاِشتَمَّلَت عَلَيهِ الأَضلُعُ
فَأَبَدَّهُنَّ حُتوفَهُنَّ فَهارِبٌ *** بِذَمائِهِ أَو بارِكٌ مُتَجَعجِعُ
يَعثُرنَ في حَدِّ الظُباتِ كَأَنَّما *** كُسِيَت بُرودَ بَني يَزيدَ الأَذرُعُ
وَالدَهرُ لا يَبقى عَلى حَدَثانِهِ *** شَبَبٌ أَفَزَّتهُ الكِلابُ مُرَوَّعُ
شَعَفَ الكِلابُ الضارِياتُ فُؤادَهُ *** فَإِذا يَرى الصُبحَ المُصَدَّقَ يَفزَعُ
وَيَعوذُ بِالأَرطى إِذا ما شَفَّهُ *** قَطرٌ وَراحَتهُ بَلِيلٌ زَعزَعُ
يَرمي بِعَينَيهِ الغُيوبَ وَطَرفُهُ *** مُغضٍ يُصَدِّقُ طَرفُهُ ما يَسمَعُ
فَغَدا يُشَرِّقُ مَتنَهُ فَبَدا لَهُ *** أَولى سَوابِقَها قَريباً توزَعُ
فَاِهتاجَ مِن فَزَعٍ وَسَدَّ فُروجَهُ *** غُبرٌ ضَوارٍ وافِيانِ وَأَجدَعُ
يَنهَشنَهُ وَيَذُبُّهُنَّ وَيَحتَمي *** عَبلُ الشَوى بِالطُرَّتَينِ مُوَلَّعُ
فَنَحا لَها بِمُذَلَّقَينِ كَأَنَّما *** بِهِما مِنَ النَضحِ المُجَدَّحِ أَيدَعُ
فَكَأَنَّ سَفّودَينِ لَمّا يُقتَرا *** عَجِلا لَهُ بِشَواءِ شَربٍ يُنزَعُ
فَصَرَعنَهُ تَحتَ الغُبارِ وَجَنبُهُ *** مُتَتَرِّبٌ وَلِكُلِّ جَنبٍ مَصرَعُ
حَتّى إِذا اِرتَدَّت وَأَقصَدَ عُصبَةً *** مِنها وَقامَ شَريدُها يَتَضَرَّعُ
فَبَدا لَهُ رَبُّ الكِلابِ بِكَفِّهِ *** بيضٌ رِهافٌ ريشُهُنَّ مُقَزَّعُ
فَرَمى لِيُنقِذَ فَرَّها فَهَوى لَهُ *** سَهمٌ فَأَنفَذَ طُرَّتَيهِ المِنزَعُ
فَكَبا كَما يَكبو فِنيقٌ تارِزٌ *** بِالخُبتِ إِلّا أَنَّهُ هُوَ أَبرَعُ
وَالدَهرُ لا يَبقى عَلى حَدَثانِهِ *** مُستَشعِرٌ حَلَقَ الحَديدِ مُقَنَّعُ
حَمِيَت عَلَيهِ الدِرعُ حَتّى وَجهُهُ *** مِن حَرِّها يَومَ الكَريهَةِ أَسفَعُ
تَعدو بِهِ خَوصاءُ يَفصِمُ جَريُها *** حَلَقَ الرِحالَةِ فَهِيَ رِخوٌ تَمزَعُ
قَصَرَ الصَبوحَ لَها فَشَرَّجَ لَحمَها *** بِالنَيِّ فَهِيَ تَثوخُ فيها الإِصبَعُ
مُتَفَلِّقٌ أَنساؤُها عَن قانِيٍ *** كَالقُرطِ صاوٍ غُبرُهُ لا يُرضَعُ
تَأبى بِدُرَّتِها إِذا ما اِستُكرِهَت *** إِلّا الحَميمَ فَإِنَّهُ يَتَبَضَّعُ
بَينَنا تَعَنُّقِهِ الكُماةَ وَرَوغِهِ *** يَوماً أُتيحَ لَهُ جَرىءٌ سَلفَعُ
يَعدو بِهِ نَهِشُ المُشاشِ كَأَنّهُ *** صَدَعٌ سَليمٌ رَجعُهُ لا يَظلَعُ
فَتَنادَيا وَتَواقَفَت خَيلاهُما *** وَكِلاهُما بَطَلُ اللِقاءِ مُخَدَّعُ
مُتَحامِيَينِ المَجدَ كُلٌّ واثِقٌ *** بِبَلائِهِ وَاليَومُ يَومٌ أَشنَعُ
وَعَلَيهِما مَسرودَتانِ قَضاهُما *** داودٌ أَو صَنَعُ السَوابِغِ تُبَّعُ
وَكِلاهُما في كَفِّهِ يَزَنِيَّةٌ *** فيها سِنانٌ كَالمَنارَةِ أَصلَعُ
وَكِلاهُما مُتَوَشِّحٌ ذا رَونَقٍ *** عَضباً إِذا مَسَّ الضَريبَةَ يَقطَعُ
فَتَخالَسا نَفسَيهِما بِنَوافِذٍ *** كَنَوافِذِ العُبُطِ الَّتي لا تُرقَعُ
وَكِلاهُما قَد عاشَ عيشَةَ ماجِدٍ *** وَجَنى العَلاءَ لَو أَنَّ شَيئاً يَنفَعُ
ـ المراجع :
ـ الآثار الفكرية : عبد الله فكري .
ـ الاستيعاب في معرفة الأصحاب : ابن عبد البر .
ـ الأشباه والنظائر من أشعار المتقدمين والجاهليين والمخضرمين : الخالديان .
ـ الإعجاز و الإيجاز : أبو منصور الثعالبي .
ـ الأغاني : الأصفهاني .
ـ التعازي والمراثي : للمبرد .
ـ التيجان في ملوك حمير : وهب بن منبه .
ـ ثمرات الأوراق في المحاضرات : ابن حجة الحموي .
ـ الجوهرة في نسب النبي وأصحابه العشرة : البري .
ـ خاص الخاص : أبو منصور الثعالبي .
ـ خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب : عبد القادر البغدادي .
ـ رسائل الانتقاد : ابن شرف القيرواني .
ـ العقد الفريد : ابن عبد ربه الأندلسي .
ـ أللآلي في شرح أمالي القالي : البكري .
ـ مرآة الجنان وعبرة اليقظان : اليافعي .
ـ معاهد التنصيص على شواهد التلخيص : عبد الرحمن العباسي .
ـ الموسوعة الإلكترونية الشعرية : المجمع الثقافي 2003 .
ـ موسوعة الشعر العربي : مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم ـ الإصدار الأول .