علي بن الجهم
188 - 249 هـ = 803 - 863 م
ـ الشاعر :
علي بن الجهم بن بدر، أبو الحسن، من بني سامة، من لؤي بن غالب.
شاعر، رقيق الشعر، أديب، من أهل بغداد كان معاصراً لأبي تمام، وخص بالمتوكل العباسي، ثم غضب عليه فنفاه إلى خراسان، فأقام مدة، وانتقل إلى حلب، ثم خرج منها بجماعة يريد الغزو، فاعترضه فرسان بني كلب، فقاتلهم وجرح ومات.
ـ مناسبة القصيدة :
قال عصام الدين العمري في كتابه " الروض النظر ":
" قصيدة علي بن الجهم التي هي في مدح المتوكل على الله العباسي , التي سارت بها الركبان , وافتخرت بها أبناء كل عصر وزمان ".
إذن القصيدة كانت في مدح الخليفة المتوكل على الله العباسي ـ الذي ولي الخلافة سنة 232وانتهت بقتله سنة 247 للهجرة ـ , وهو ما يذكره الكثير من الرواة , غير أن البعض يزعم قصة أخرى قيلت من أجلها القصيدة , والله أعلم أن هذه القصة من صناعة القصاص واختراعهم , فلحلاوتها وسلاستها , وانتشارها في الآفاق , أراد مؤلف القصة إيجاد مناسبة تمثل القصيدة أكثر , وتجذب الأسماع إليها والقلوب , فاصطنعها.
لكن ملامح القصة مستوحاة من القصيدة , فزعموا أن علي بن الجهم كان من البدو ولما دخل بغداد , أراد مدح الخليفة حتى يصيبه النوال والخير .
فلما مثل بين يديه مدحه بأبيات , شبه فيها الخليفة بالكلب في الوفاء , والتيس في مقارعة الخطوب , مما حمل من كان بحضرة الخليفة على أن ينهره , وقيامهم إليه ليضربوه , فكفهم الخليفة وأمر بإبقائه عنده بالقصر وبعد مرور شهر أو كما قالوا أمر بإحضاره , فلما وقف بين يديه ألقى هذه القصيدة الرائعة , ونافس بها شعراء الحضر .
ومثل ما قلت لك فالقصة مخترعة والله أعلم .
أما القصيدة فهي من عيون الشعر العربي , وقلادة من قلائده الجميلة , ومن أحسن ما قيل نظما , ولجودتها اقتبس الشعراء منها , فمنهم علي بن علي العمري :
وسحر جفون ذكرتني عيونها *** عيون المها بين الرصافة والجسر
لقد هيجت شوقي القديم لواحظ *** جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
والشيخ الرئيس أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن ابراهيم النميري :
أعادت لي الشوق القديم مياهها *** وسقن الهوى من حيث ادري ولا ادري
كأني علي والعيون التي رنت *** عيون المها بين الرصافة والجسر
وحيكت القصص الغريبة فيها , ومنها ما ذكره ابن الجوزي في كتابه الأذكياء أنه :
" قال ابن المبارك بن أحمد :
خرج رجل على سبيل الفرجة , فقعد على الجسر , فأقبلت امرأة من جانب الرصافة متوجهة إلى الجانب الغربي , فاستقبلها شاب فقال لها : رحم الله علي بن الجهم .
فقالت المرأة ـ في الحال ـ : رحم الله أبا العلاء المعري .
وما وقفا ومرا مشرقة ومغرباً , فتبعت المرأة وقلت لها : إن لم تقولي ما قلتما وإلا فضحتك وتعلقت بك .
فقالت قال لي الشاب رحم الله علي ابن الجهم أراد به قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردت أنا بترحمي على المعري قوله:
فيا دارها بالحزن مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال ".أهـ
ـ القصيدة
عيونُ المها بين الرُّصافة والجسرِ *** جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدنَ لي الشوق القديم ولم أكن *** سلوْتُ ولكن زدنَ جمراً على جمرِ
سَلِمنَ وأسلمنَ القلوب كأنما *** تُشَكُّ بأطرافِ المثقَّفةِ السُّمر
وقلنَ لنا نحن الإهلَّةُ إنّما *** تُضىء لمن يسري بليل ولا تقري
فلا بذلَ إلا ما تزوَّد ناظرٌ *** ولا وصلَ إلا بالخيال الذي يسري
أحينَ أزلنَ القلبَ عن مستقرِّه *** وألهبنَ ما بين الجوانح والصدر
صَدَدْنَ صدودَ الشارب الخمر عندما *** زوى نفسه عن شربها خيفة السُّكر
ألا قبل أن يبدو المشيبُ بدأَنني *** بيأسٍ مبينٍ أو جنحنَ إلى غدري
فإن حُلْنَ أو أنكرن عهداً عهدنَهُ *** فغيرُ بديعٍ للغواني ولا نُكْر
ولكنه أودَى الشبابُ وإنما *** تُصادُ المها بين الشبيبةِ والوفر
كفَى بالهوى عيّاً وبالشيب زاجراً *** لَوَ انَّ الهوى مما ينهنه بالزَّجر
أما ومشيبٍ راعهنَّ وربَّما *** غمزنَ نياماً بين سَحر إلى نحر
وبتنا على رغم الحسودِ كأننا *** خليطان من ماء الغمامة والخمر
خليليَّ ما أحلَى الهوى وأمرَّه *** وأعلمني بالحلو منه وبالمرِّ
بما بيننا من حُرمةٍ هل رأيتما *** أرقَّ من الشكوى وأقسَى من الهجر
وأفضحَ من عينِ المحبِّ لسرِّه *** ولا سيما إن أَطْلَقَتْ عبرةً تجري
وما أنسَ لا أنسَ ظلومَ وقولها *** لجارتها ما أولع الحبَّ بالحرِّ
فقالت لها الأخرى فما لصديقنا *** مُعَنّىً وهل في قتله لك من عُذر
عِديه لعلّ الوصلَ يحييه واعلمي *** بأن أسيرَ الحبِّ في أوثق الأسر
فقالت أُداري الناس عنه وقلَّما *** يطيب الهوى إلا لمنهتك الستر
وأيقنتا أن قد سمعتُ فقالتا *** من الطارقُ الساري إلينا ولا ندري
فقلتُ فتىً إن شئتما ستر الهوى*** وإلاّ فخلاَّعُ الأعنَّةِ والعُذرِ
على أنه يشكو ظلومَ وبخلها *** عليه بتسليم البشاشةِ والبِشر
فقالت هُجينا، قلت قد كان بعضُ مَا *** ذكرتِ لعلَّ الشَّرَّ يُدفعُ بالشَّرِّ
فقالت كأنّا كالقوافي سوائراً *** يردنَ بنا مصراً ويصدرنَ عن مصر
فقلتُ أَسأْتِ الظَّنَّ بي لستُ شاعراً *** وإن كان أحياناً يجيش به صدري
صِلي واسأَلي مَن شئت يخبركِ أنني *** على كلِ حالٍ نعم مستودَعُ السّر
وما الشعرُ مما أستظلُّ بظلِّه *** ولا زادني قدراً ولا حطَّ من قدري
وما أنا ممن سيَّرَ الشعرُ ذكرَهُ *** ولكن أشعاري يسيرُ بها ذكري
وللشعر أتباعٌ كثيرٌ ولم أكن *** له تبعاً في حال عُسر ولا يُسر
ولا كلُّ من قاد الجيوش يسوسها *** ولا كلُّ من أجرَى يُقالُ له مُجري
ولكن إحسانَ الخليفةِ جعفرٍ *** دعاني إلى ما قلتُ فيه من الشعر
فسارَ مسيرَ الشمس في كل بلدةٍ *** وهبَّ هبوبَ الريح في البرِّ والبحر
ولو جلّ عن شُكرِ الصنيعةٍ مُنعمٌ *** لجلَّ أميرُ المؤمنينَ عن الشكرِ
فتىً تسعدُ الأبصارُ في حُسن وجهه *** كما تسعدُ الأيدي بنائله الغَمر
به سَلِمَ الإسلامُ من كلِّ مُلحدٍ *** وحلَّ بأهلِ الزَّيغِ قاصمةُ الظهر
إمام هدىً جلاّ عن الدين بعدما *** تغادت على أشياعِهِ شيعُ الكفرِ
وفرَّق شملَ المالِ جودُ يمينه *** على أنه أبقَى له أجملَ الذكر
إذا ما أجالَ الرأي أدركَ فكرُهُ *** غرائبَ لم تخطُر ببالٍ ولا فكر
ولا يجمعُ الأموالَ إلا لبذلها *** كما لا يُساقُ الهديُ إلا إلى النحرِ
وما غايةُ المثنَى عليه لو أنَّه *** زهيرٌ والأَعْشَى وامرؤُ القيس من حجر
أليس إذا ما قاس بالشمس وجهه *** وبالبدرِ قلنا حاق للشمس والبدر
وإن قال إن البحر والقطر أشبها *** نداه، فقد أثنى على القطر والبحر
ولو قُرنت بالبحر سبعة أبحرٍ *** لما أدركت جدوى أنامله العشر
وإن ذكر المجد القديم فإنما *** يقصُّ علينا ما تنزَّل في الزُّبر
فإن كان أمسَى جعفرٌ متوكّلاً *** على اللّه في سرِّ الأُمور وفي الجهر
لقد شكر اللّه الخليفة جعفراً *** وأعطاه مما لا يبيد على الدهر
وولّى عهودَ المسلمينَ ثلاثةً *** يُحَبُّون بالتأييدِ والعزِّ والنصر
أغيرَ كتاب اللّه تبغون شاهداً *** لكم يا بني العباس في المجد والفخر
كفاكم بأن اللّه فوَّضَ أمرَهُ *** إليكم وأوْحَى أن أطيعوا ذوي الأمر
ولا يُقبلُ الإيمان إلا بحكمكم *** وهل يقبلُ اللّه الصلاةَ بلا طُهر؟
ومن كان مجهولََ المكان فإنما *** منازلكم بين الحَجُون إلى الحِجْر
وما زال بيتُ اللّه بين بيوتكم *** تذبُّون عنه بالمهنَّدة البُتر
أبو نصلِهِ عُمرُو العُلا وهو هاشمٌ *** أبوكم وهل في الناسِ أشرف من عمرو
وساقي الحجيج شيبة الحمد بعدَهُ *** أبو الحارث المُبقي لكم غايةَ الفخر
سَقَيتُم وأَطعمتم وما زال فضلكم *** على غيركم فضل الوفاء على الغدر
وجوه بني العباس للملكِ زينةٌ *** كما زِينت الأفلاكُ بالأنجم الزُّهر
ولا يستهلُّ الملكُ إلا بأهله *** وهل ترجع الأيامُ إلا إلى الشهر
وما ظهر الإسلامُ إلا وجارُكم *** بني هاشم بين المجرَّةِ والنَّسر
فحيُّوا بني العباس فيها تحيةً *** تسير على الأيام طيبةَ النشر
إذا أُنشدت زادت وليَّك غبطةً *** وكانت لأهل الزَّيغ قاصمةَ الظهر
ـ المراجع :
ـ الأذكياء : ابن الجوزي .
ـ جمهرة الإسلام ذات النثر والنظام : الشيزري .
ـ الروض النضر في ترجمة أدباء العصر : عصام الدين العمري .
ـ الكتيبة الكامنة في من لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة : لسان الدين الخطيب .
ـ الموسوعة الشعر العربي الإلكترونية : مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم : الإصدار الأول
ـ الموسوعة الشعرية الإلكترونية : المجمع الثقافي 2003 .