أبو فِراس الحَمَداني
320 - 357 هـ / 932 - 967 م
1ـ الشاعر:
ذكر ابن خلكان في ترجمته أنه :
" أبو فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون الحمداني .
ابن عم ناصر الدولة وسيف الدولة ابني حمدان .
وكانت الروم قد أسرته في بعض وقائعها ، وهو جريح قد أصابه سهم بقي نصله في فخذه، ونقلته إلى خرشنة ، ثم منها إلى قسطنطينية ، وذلك في سنة ثمان وأربعين و ثلاثمائة .
وفداه سيف الدولة في سنة خمس وخمسين.
قلت: هكذا قال أبو الحسن علي بن الزراد الديلمي ، وقد نسبوه في ذلك إلى الغلط .
وقالوا: أسر أبو فراس مرتين، فالمرة الأولى بمغارة الكحل في سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وما تعدوا به خرشنة ، وهي قلعة ببلاد الروم والفرات يجري من تحتها .
وفيها يقال: إنه ركب فرسه وركضه برجله ، فأهوى به من أعلى الحصن إلى الفرات ، والله أعلم .
والمرة الثانية أسره الروم على منبج في شوال سنة إحدى وخمسين ، وحملوه إلى قسطنطينية .
وأقام في الأسر أربع سنين ، وله في الأسر أشعار كثيرة مثبتة في ديوانه.
وكانت مدينة منبج إقطاعاً له .
ومن شعره:
قد كنت عدتي التي أسطو بها *** ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي
فرميت منك بضد ما أملته *** والمرء يشرق بالزلال البارد
فصبرت كالولد التقي لبره *** أغضى على ألم لضرب الوالد
ومحاسن شعره كثيرة.
يقال : أن مولده كان في سنة عشرين وثلاثمائة والله أعلم .
وقيل سنة إحدى وعشرين .
وقتل في واقعة جرت بينه وبين موالي أسرته في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة .
(وذكر في محل ثان من ترجمته)
مات قتيلاً في صدد (على مقربة من حمص)، قتله رجال خاله سعد الدولة.
ورأيت في ديوانه أنه لم أحضرته الوفاة كان ينشد مخاطباً ابنته:
أبنيتي لا تجزعي *** كل الأنام إلى ذهاب
نوحي علي بحسرة *** من خلف سترك والحجاب
قولي إذا كلمتني *** فعييت عن رد الجواب
زين الشباب أبو فرا *** س لم يمتع بالشباب
وهذا يدل على أنه لم يقتل ، أو يكون قد جرح وتأخر هوته ، ثم مات من الجراحة .
وقيل إن هذا الشعر قاله وهو أسير في أيدي الروم ، وكان قد جرح ثم أسر ثم خلص من الأسر .
فداه سيف الدولة مع من فودي من أسرى المسلمين " .(أنتهى بتصرف )
قال عنه الثعالبي في كتابه " يتيمة الدهر " :
" هو ابن عم سيف الدولة المقدم ذكره، وابن عم ناصر الدولة.
كان فرد دهره، وشمس عصره، أدباً وفضلاً، وكرماً ونبلاً، ومجداً وبلاغة وبراعة، وفروسية وشجاعة .
وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة ، والسهولة والجزالة، والعذوبة والفخامة ، والحلاوة والمتانة، ومعه رواء الطبع ، وسمة الظرف، وعزة الملك.
ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز، وأبو فراس يعد أشعر منه عند أهل الصنعة و نقدة الكلام .
وكان الصاحب ( ابن عباد ) يقول: "بدئ الشعر بملك، وختم بملك" , يعني امرأ القيس وأبا فراس .
وكان المتنبي يشهد له بالتقدم و التبريز ، ويتحامى جانبه فلا ينبري لمباراته ، ولا يجترئ على مجاراته ، وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيباً له وإجلال اً، لا إغفالاً وإخلالا ً.
وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس ، ويميزه بالإكرام عن سائر قومه ، ويصطنعه لنفسه ، ويصطحبه في غزواته ، ويستخلفه على أعماله .
وأبو فراس ينثر الدر الثمين في مكاتباته إياه ، ويوفيه حق سؤدده ، ويجمع بين أدبي السيف والقلم في خدمته ".أهـ
2ـ مناسبة القصيدة :
أبو فراس من الشعراء الذين يحتار فيهم العقل في اختيار قصيدة من قصائده , وذلك لكثرة شعره و جودته , وصدق مقاله , وبالخصوص " الروميات " من شعره , فالشاعر فيها مثلما قال القاضي التنوخي :
" ولأبي فراس كل شيء حسن من الشعر , في معنى أسره .
و قال الببغاء: وله في صفة أسره، وعلل لحقته هناك، ومراث لنفسه في الأسر، وتعطف لسيف الدولة، وصفة الأسر، وما لحقه فيه ، شعر كثير، حسن أكثره، بمعان مخترعة، لم يسبق إليها ". (انتهى بتصرف )
وقال الثعالبي في " يتيمة الدهر ":
" لما أدركت أبا فراس حرقة الأدب ، وأصابته عين الكمال ، وأسرته الروم في بعض وقائعها وهو جريح ، وقد أصاب سهم بقي نصله في فخذه ، وحصل مثخناً بخرشنة ، ثم بقسطنطينية، وتطاولت مدته بها لتعذر المفاداة ( فداؤه )، وقد قيل: على كل نجح رقيب من الآفات .
وقد كانت تصدر أشعاره في الأسر والمرض واستزادة سيف الدولة ، وفرط الحنين إلى أهله وإخوانه وأحبابه ، والتبرم بحاله ومكانه ، عن صدر حرج ، وقلب شج ، تزداد رقة ولطافة ، وتبكي سامعها، وتعلق بالحفظ لسلاستها ". أهـ
والقصيدة إحدى تلك الروميات الرائعة , يحث يظهر فيها قدر الممدوح والمادح , وحسن الإعتاب ولطفه , وبراعة الشاعر في وصف حاله , و تبليغ مشاعره , مع سهولة اللفظ وسلاسته .
3 ـ القصيدة :
دَعوتُكَ لِلجَفنِ القَريحِ المُسَهَّدِ *** لَدَيَّ وَلِلنَومِ القَليلِ المُشَرَّدِ
وَما ذاكَ بُخلاً بِالحَياةِ وَإِنَّها *** لَأَوَّلُ مَبذولٍ لِأَوَّلِ مُجتَدِ
وَما الأَسرُ مِمّا ضِقتُ ذَرعاً بِحَملِهِ *** وَما الخَطبُ مِمّا أَن أَقولَ لَهُ قَدي
وَما زَلَّ عَنّي أَنَّ شَخصاً مُعَرَّضاً *** لِنَبلِ العِدى إِن لَم يُصَب فَكَأَن قَدِ
وَلَكِنَّني أَختارُ مَوتَ بَني أَبي *** عَلى صَهَواتِ الخَيلِ غَيرِ مُوَسَّدِ
وَتَأبى وَآبى أَن أَموتَ مُوَسَّداً *** بِأَيدي النَصارى مَوتَ أَكمُدَ أَكبَدِ
نَضَوتُ عَلى الأَيّامِ ثَوبَ جَلادَتي *** وَلَكِنَّني لَم أَنضَ ثَوبَ التَجَلُّدِ
وَما أَنا إِلّا بَينَ أَمرٍ وَضِدَّهُ *** يُجَدَّدُ لي في كُلِّ يَومٍ مَجَدَّدِ
فَمِن حُسنِ صَبرٍ بِالسَلامَةِ واعِدي *** وَمِن رَيبِ دَهرٍ بِالرَدى مُتَوَعَّدي
أُقَلِّبُ طَرفي بَينَ خِلٍّ مُكَبَّلٍ *** وَبَينَ صَفِيٍّ بِالحَديدِ مُصَفَّدِ
دَعَوتُكَ وَالأَبوابُ تُرتَجُ دونَنا *** فَكُن خَيرَ مَدعُوٍّ وَأَكرَمَ مُنجِدِ
فَمِثلُكَ مَن يُدعى لِكُلِّ عَظيمَةٍ *** وَمِثلِيَ مَن يُفدى بِكُلِّ مُسَوَّدِ
أُناديكَ لا أَنّي أَخافُ مِنَ الرَدى *** وَلا أَرتَجي تَأخيرَ يَومٍ إِلى غَدِ
وَقَد حُطِّمَ الخَطِّيُّ وَاِختَرَمَ العِدى *** وَفُلَّلَ حَدُّ المَشرَفيِّ المُهَنَّدِ
وَلَكِن أَنِفتُ المَوتَ في دارِ غُربَةٍ *** بِأَيدي النَصارى الغُلفُ ميتَةَ أَكمَدِ
فَلا تَترُكِ الأَعداءَ حَولي لِيَفرَحوا *** وَلا تَقطَعِ التَسآلَ عَنّي وَتَقعُدِ
وَلا تَقعُدَن عَنّي وَقَد سيمَ فِديَتي *** فَلَستَ عَنِ الفِعلِ الكَريمِ بِمُقعَدِ
فَكَم لَكَ عِندي مِن إِيادٍ وَأَنعُمٍ *** رَفَعتَ بِها قَدري وَأَكثَرتَ حُسَّدي
تَشَبَّث بِها أُكرومَةً قَبلَ فَوتِها *** وَقُم في خَلاصي صادِقَ العَزمِ وَاِقعُدِ
فَإِن مُتَّ بَعدَ اليَومِ عابَكَ مَهلَكي *** مَعابَ النِزارِيِّنَ مَهلَكَ مَعبَدِ
هُمُ عَضَلوا عَنهُ الفِداءَ فَأَصبَحوا *** وَهُذّونَ أَطرافَ القَريضِ المُقَصَّدِ
وَلَم يَكُ بِدعاً هُلكُهُ غَيرَ أَنَّهُم *** يُعابونَ إِذ سيمَ الفِداءُ وَما فُدي
فَلا كانَ كَلبُ الرومِ أَرأَفَ مِنكُمُ *** وَأَرغَبَ في كَسبِ الثَناءِ المُخَلَّدِ
وَلا بَلَغَ الأَعداءُ أَن يَتَناهَضوا *** وَتَقعُدَ عَن هَذا العَلاءِ المُشَيَّدِ
أَأَضحَوا عَلى أَسراهُمُ بِيَ عُوَّداً *** وَأَنتُم عَلى أَسراكُمُ غَيرُ عُوَّدِ
مَتى تُخلِفُ الأَيّامُ مِثلي لَكُم فَتىً *** طَويلَ نِجادِ السَيفِ رَحبَ المُقَلَّدِ
مَتى تَلِدُ الأَيّامُ مِثلي لَكُم فَتىً *** شَديداً عَلى البَأساءِ غَيرَ مُلَهَّدِ
فَإِن تَفتَدوني تَفتَدوا شَرَفَ العُلا *** وَأَسرَعَ عَوّادٍ إِلَيها مُعَوَّدِ
وَإِن تَفتَدوني تَفتَدوا لِعُلاكُم *** فَتىً غَيرَ مَردودِ اللِسانِ أَوِ اليَدِ
يُدافِعُ عَن أَعراضِكُم بِلِسانِهِ *** وَيَضرِبُ عَنكُم بِالحُسامِ المُهَنَّدِ
فَما كُلُّ مَن شاءَ المَعالي يَنالُها *** وَلا كُلُّ سَيّارٍ إِلى المَجدِ يَهتَدي
أَقِلني أَقِلني عَثرَةَ الدَهرِ إِنَّهُ *** رَماني بِسَهمٍ صائِبِ النَصلِ مُقصِدِ
وَلَو لَم تَنَل نَفسي وَلاءَكَ لَم أَكُن *** لِؤورِدَها في نَصرِهِ كُلَّ مَورِدِ
وَلا كُنتُ أَلقى الأَلفَ زُرقاً عُيونُها *** بِسَبعينَ فيهِم كُلَّ أَشأَمَ أَنكَدِ
فَلا وَأَبي ما ساعِدانِ كَساعِدٍ *** وَلا وَأَبي ما سَيِّدانِ كَسَيِّدِ
وَلا وَأَبي ما يَفتُقُ الدَهرُ جانِباً *** فَيَرتُقُهُ إِلّا بِأَمرٍ مُسَدَّدِ
وَإِنَّكَ لِلمَولى الَّذي بِكَ أَقتَدي *** وَإِنَّكَ لِلنَجمِ الَّذي بِكَ أَهتَدي
وَأَنتَ الَّذي عَرَّفتَني طُرُقَ العُلا *** وَأَنتَ الَّذي أَهدَيتَني كُلَّ مَقصَدِ
وَأَنتَ الَّذي بَلَّغتَني كُلَّ رُتبَةٍ *** مَشيتُ إِلَيها فَوقَ أَعناقِ حُسَّدي
فَيا مُلبِسي النُعمى الَّتي جَلَّ قَدرُها *** لَقَد أَخلَقَت تِلكَ الثِيابُ فَجَدِّدِ
أَلَم تَرَ أَنّي فيكَ صافَحتُ حَدَّها *** وَفيكَ شَرِبتُ المَوتُ غَيرَ مُصَرَّدِ
يَقولونُ جَنِّب عادَةً ما عَرَفتَها *** شَديدٌ عَلى الإِنسانِ مالَم يُعَوَّدِ
فَقُلتُ أَما وَاللَهِ لاقالَ قائِلٌ *** شَهِدتُ لَهُ في الحَربِ أَلأَمَ مَشهَدِ
وَلَكِن سَأَلقاها فَإِمّا مَنِيَّةٌ *** هِيَ الظَنُّ أَو بُنيانُ عِزٍّ مُوَطَّدِ
وَلَم أَدرِ أَنَّ الدَهرَ في عَدَدِ العِدى *** وَأَنَّ المَنايا السودَ يَرمَينَ عَن يَدِ
بَقيتَ اِبنَ عَبدِ اللَهِ تُحمى مِنَ الرَدى *** وَيَفديكَ مِنّا سَيِّدٌ بَعدَ سَيِّدِ
بِعيشَةِ مَسعودٍ وَأَيّامِ سالِمٍ *** وَنِعمَةِ مَغبوطٍ وَحالِ مُحَسَّدِ
وَلا يَحرَمَنّي اللَهُ قُربَكَ إِنَّهُ *** مُرادي مِنَ الدُنيا وَحَظّي وَسُؤدَدي
ـ المراجع :
ـ الموسوعة الشعرية : المجمع الثقافي ـ 2003 .
ـ نشوار المحاضرة : لقاضي التنوخي .
ـ وفيات الأعيان وأنباء أهل الزمان : ابن خلكان .
ـ يتيمة الدهر في شعراء العصر : الثعالبي .