يتبادل الناس الأفكار كما يتبادلون الأشياء ،ووسيلة هذا التبادل وطريقة هذا التواصل هي اللغة التي يعرفها الجرجاني (هي كل ما يعبر به قوم عن أغراضهم) فلا ينحصر الفكر في الكلام فقط. والفكر في جوهره نشاط عقلي يعتمد في أداء وظيفته على استخدام المعاني وما يقابلها في اللغة من رموز والتفكير كما يقول كوندايك (يرتد إلى فن إتقان الكلام) وهذا يعني أن اللغة والفكر مرتبطان أشد الارتباط غير أن بعض المفكرين والفلاسفة يشكون من تقصير اللغة وعجزها عن التعبير عن كامل أفكارنا وبعبارة أصح :
هل نستطيع أن نفكر فيما نعجز عن قوله؟
يرى أصحاب الاتجاه الثنائي أن اللغة باعتبارها أداة عامة للتواصل بين الأفكار لا تخرج عن كونها ألفاظا عادية ساكنة تقف في وجه الفكر وتقيم له عقبة فاللغة كما يلاحظ جيسبيرسن(بمفرداتها وصيغتها الثابتة قد أجبرت الفكر على أن يسلك سبلا مطروقة حتى أنهم اضطروا إلى اقتفاء أثر الأولين وآل بهم الأمر إلى أن يكون تفكيرهم أشبه بتفكير من سبقهم)، وقد ذهب على شاكلة هذا الطرح برغسون ،حيث يرى بأن الفكر مستقل عن اللغة وأن اللغة تقيد الفكر وتستعبده ، كما يرى أيضا أنه لا يوجد تناسب بين ما نملكه من أفكار وما نملكه من ألفاظ ، فالألفاظ محدودة ،والأفكار غير محدودة فكيف يمكن للمحدود أن يستوعب اللامحدود
يقول برغسون(إن كلماتي من جليد فكيف تحمل بداخلها النيران وإن المعاني تموت عند سجنها في القوالب اللغوية)؛ وفي هذا يقول ( الألفاظ قبور المعاني)،ويرجع أصحاب هذا الموقف عدم التناسب إلى كون اللغة واحدة منذ القدم لم تتطور بينما الأفكار تتطور كل يوم ،بالإضافة إلى كل هذا فإن الفكر تتجاوز دلالة الألفاظ ؛ حيث أن اللفظ لا يعبر إلا عما اصطلح وتعارف عليه المجتمع كذلك أننا في حياتنا اليومية يستعصي علينا التعبير عن بعض المعاني (كما كان يحدث مع الصوفية الذين يرون صعوبة التعبير عن تجاربهم النفسية >من ذاق عرف<يطلبون منا أن نعاني تجربتهم لنذوق ما ذاقوا) وكذلك أن الفكر متصل والألفاظ منفصلة حيث تتدفق المعاني ككل متصل يجعل الألفاظ عاجزة على أن تسعه وقد جاء هذا في القرآن الكريم في بعض الآيات في قوله تعالى (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) ،وقوله أيضا (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) بالإضافة إلى كل هذا يمكن التعبير عن الألفاظ والمعاني دون استخدام اللغة مثل الرسم والموسيقى و إشارات الصم والبكم .
إن هذا القول بهذا الرأي لم يصمد للنقد ذلك أننا لا نستطيع أن نجزم باستغلال الفكر عن اللغة إذ كيف يمكن أن نتمثل في الذهن تصورات لا اسم لها ، ومهما ألح برغسون على عجز اللغة ومخاطرها فهو يطالب بإخضاع اللغة هذه إلى تعديلات عميقة وشاملة حتى تؤدي دورها يقول (إن اللغة يجب أن تكون على درجة من السيولة والمرونة مما يجعلها قادرة على متابعة الفكر الحي في سيولته وتدفقه المستمر) وكيف تتمايز الأفكار فيما بينها لولا اندراجها في قوالب لغوية .
إن هذا الموقف السلبي يوحي بأمرين :1
-إن الفكر قد يوجد في صورة عالية عن الألفاظ .
2-أن اللغة يجب ألا تستعبد الفكر الحر .
وعلى عكس الرأي الأول نجد من يقول بالتلاحم بين الفكر واللغة وبين المعاني والألفاظ فمعظم الفلاسفة اللغويين يؤكدون وجود وحدة بين اللغة والفكر وشبه هاملتون اللغة بورقة وجهها الفكر وظهرها الصوت ويشبه ماكس موليير ذلك التداخل بين اللغة والفكر بقطعة نقد الفكر وجهها واللغة ظهرها يقول (ليس ما ندعوه فكرا إلا وجها من وجهي قطعة النقد والوجه الآخر هو الصوت المسموع والقطعة شيء واحد غير قابل التجزئة فليس ثمة فكر ولا صوت ولكن كلمات). وقد شبهت اللغة بالقلم والفكر بالمداد أو الجسد والروح ،فالفكر واللغة شيء واحد ذلك أننا نفكر باللغة ونتكلم بالفكر وأن الكلام غير المنظم فكريا ليس لغة بل ثرثرة لا طائل منها ونجد دو لاكروا يقول (إن الفكر يصنع اللغة وهي تصنعه) ،ويقال أن ما ندركه جيدا نعبر عنه بوضوح كذلك يقول واطسن ( التفكير ضرب من الكلام الصامت ) ويؤكد ذلك كوندياك حيث يرى أن فن التفكير يرتد إلى فن إتقان الكلام ،إذا فلا تمييز بين الفكر واللغة ويقول هيغل (إن الرغبة في التفكير بدون كلمات محاولة عديمة الجدوى لأن الكلمة تعطي للفكر وجوده الأسمى ) ويقول ستالين (مهما كانت الأفكار التي تجئ إلى فكر الإنسان فإنها لا تستطيع أن تنشأ وتوجد إلا على أساس مادة اللغة) ،ويقول هاملتون (إن المعاني شبيهة بشرارة النار ما إن تومض فإنها سرعان ما تنطفئ ولا يمكن إظهارها وتثبيتها إلا بالألفاظ)؛إن هذا الرأي يقوم على أنه لا وجود لمعنى إلا إذا تمايز عن غيره من المعاني بإشارة تسمح للغير بإدراكها ،فعلم النفس المعاصر كشف على أن تكوين المعاني لدى الأطفال يتقدم مع تقدم اكتسابهم للغة وزيادة رصيدهم اللغوي وأن الطفل بتعلمه اللغة يتعلم التفكير ويسير في ارتقائه اللغوي وفقا لارتقاء فهمه وقد لوحظ أن فقدان اللغة يلازمه اختلال في المقومات الذهنية ،كذلك أن افتراض معان عصية عن الألفاظ وافتراض خيالي إذ لا يكون لهذه المعاني وجود واقعي ما لم تحددها الألفاظ كما أن الأفكار التي لا تضبط بكلمات سرعان ما تزول وتندحر وفي هذا يقول هاملتون (الألفاظ حصون المعانــــــي) .
هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد حيث أنه مهما وافقنا على وجود تطابق بين الأفكار والألفاظ فإنه يجب أن نعترف بوجود تفاوت بينهما إذ نجد في أنفسنا عدم التناسب بين قدرتنا على الفهم وقدرتنا على الأداء وهذا يعني أن الإنسان يفهم معاني اللغة أكثر مما يحسن ألفاظها >نفهم اللغة الأجنبية أكثر مما نتقن التكلم بها، ومع كل هذا فإننا نعترف بأنه كلما كانت لغتنا سليمة كنا أقدر للتعبير عن أفكارنا وفي هذا يقول كوندياك (نحن لا نفكر بصورة حسنة أو سيئة إلا لأن لغتنا مصنوعة صناعة حسنة أو سيئة) ،فبقدر ما تكون اللغة في أمة من الأمم متطورة بقدر ما تتاح الفرصة لهم لتملك زمام الحضارة الإنسانية والمعرفة العلميـــــــــة .
إن العيب الذي تؤاخذ عليه النظريتان هو أنهما جزأتا اللغة عن الفكر والفكر عن اللغة إلا أن هذين الأخيرين بمثابة الجسد للروح لا يمكن لأحدهما أن ينفصل عن الآخر ولا يمكن له أن يستمر في الوجود دون وجود الثاني كذلك أنه توجد علاقة بين الفكر واللغة على مستوى التأثير المتبادل ويمكن الاستدلال على ذلك حيث أن علم النفس الفيزيولوجي أثبت أن للدماغ البشري مراكز خاصة باللغة (مراكز :الكلام ، الرؤية ،السمع …) ؛وهناك مراكز خاصة بالعمليات العقلية كالتفكير والذاكرة والذكاء ,وإذا ما تعرض مركز من هذه المراكز لخلل بسبب صدمة مثل حالة معطوبي الحرب يكون له انعكاس على التفكــــــير .
وإذا أردنا الخروج بحوصلة فإن اللغة حقا لا تعبر إلا عن قليل من مضمون الفكر ،ولكن لا ينبغي رفضها لأن الفكر بأوسع معانيه بحاجة إليها فهي بالنسبة له أداة تنظيم وتوضيح ونمو والعجز الذي يصيب اللغة لا يجب أن يوحي برفضها كوسيلة للتواصل ،وإن التخلي عنها يعني إنكار الفكر وهذا ضرب من الحلم الكاذب