هل يمكن اعتبار علم الرياضيات مثال للدقة و الوضوح و البداهة ؟
الطريقة : جدلية :
مقدمة:
الرياضيات هي علم المفاهيم العقلية المجردة القابلة للقياس ، وهي نتيجة من نتائج
مجهود الإنسان الفكري و سعيه نحو المعرفة ، وبهذا المعنى يكون علم الرياضيات عل
ما دقيقا وواضحا كما أن قضاياه تكون بديهية تستبعد عنها كل شك .
و الإشكال المطروح هنا هو : على أي أساس تكون الرياضيات عما دقيقا و يقينيا ؟
و إلى أي مدى تبقى كذلك في زمن المجموعات اللا متناهية و المسلمات اللااقليدية والأنساق
المعاصرة ؟
العرض :
يرى الفيلسوف و عالم الرياضيات الفرنسي * رينيه ديكارت * بان الرياضيات علم
دقيق وواضح بذاته كما أن قضاياها بديهية تستبعد كل شك فيها ، ولعل موقفه هذا مستمد
من نزعته العقلية و منهجه في البحث الذي يقوم على قاعدة أساسية هي أننا لانقبل أي
شيء أو قضية أو معتقد الا إذا كان صادقا و معيار الصدق عنده هو الوضوح و البداهة ،
ان الرياضيات عنده تقوم على أفكار فطرية قبلية لذلك فهي صادقة بذاتها و لا يمكن الشك
فيها كما أن الرياضيات عنده بنوعيها ، الكم المنفصل و الكم المتصل * الجبر و الهندسة *
أكثر العلوم دقة لأنها استنتاجيه عقلية ، ونجد كذلك من يؤيد * ديكارت * في هذا مثل عالم الرياضيات الفرنسي * باسكال * الذي يرى أن طريقة البرهنة في الهندسة منهجية وكاملة ، وكذلك الفيلسوف الألماني * ليبنتز * الذي يرى أن الرياضيات ليست سوى امتداد وتطور للمنطق العام ن وان البديهيات في الرياضيات ترد إلى مبادئ العقل ، كذلك رأى الفيلسوف الألماني * ايمانويل كانط * إن أساس الرياضيات قضايا حقيقية قبلية تفرض نفسها على العقل فرضا ، فمن الضروري عنده أن نقول انه من نقطة خارج مستقيم لا يمر سوى مواز واحد لهذا المستقيم وان السطح المستوي له بعدان ، إن المسلمات الاقليدية عنده أساسها العقل الخالص ،لذلك لا يمكن لأحد أن يشك في مصداقيتها و يقينها .
هكذا كانت نظرة العلماء و الفلاسفة إلى الرياضيات على أنها علم دقيق ويقيني ،كما احتلت مكانة الصدارة بين العلوم ، إلى أن بدا الشك والنقد يصل إليها بعد محاولة بعض علماء الرياضيات بناء هندسات جديدة ، و بعد انهيار فكرة المطلقية التامة للعلوم
في الفرن التاسع عشر وضع عالم الرياضيات الروسي * لوباتشيفسكي * مسلمات جديدة في الهندسة تقول انه من نقطة خارج مستقيم يمكن أن تمر عدة مستقيمات موازية لهذا المستقيم ، وان مجموع زوايا المثلث اقل من 180° وفي سنة 1854 افترض عالم الرياضيات الألماني * ريمان * أن من نقطة خارج مستقيم لا يمر أي مواز لهذا المستقيم و ان مجموع زوايا المثلث اكبر من 180° ، وكل هذا ينطلق من هندسات فضائية جديدة قائمة على تصورات مختلفة للمكان ، وأصبح بهذا ما يراه الأولون حقائق ثابتة أصبحت متغيرة ، حتى البديهية التي تقول إن الكل اكبر من الجزء أصبحت لا تنطبق على المجموعات اللامتناهية ، وكانت هذه اكبر أزمة تعرضت لها الرياضيات في تاريخها وقد عبر الفيلسوف الانجليزي * برتراند راسل * عن هذه الأزمة بمقولته الشهيرة *الرياضيات هي العلم الذي لا نعرف هل ما يقال فيه صحيح أم لا * فإذا كان معيار الصدق في الرياضيات هو عدم تناقض الفكر مع نفسه على أساس أن لا احد يشك في الفكر و مبادئه فان تزعزع بديهية الكل اكبر من الجزء جعل
الإنسان يشك في العقل و مبادئه ، وفقدت الرياضيات بذلك معيار صدقها ويقينها التام و
المطلق .
غير أن هذه الأنساق الرياضية الجديدة لم تفقد الرياضيات مكانتها الكبيرة بين العلوم
فهي لا تزال بالرغم من كل ما سبق أدق العلوم على الإطلاق ، فبالرغم من التحول الكبير
الذي عرفته الرياضيات المعاصرة الا أنها لم تفقد معيار صدقها و الآراء التي ظهرت أو
الأنساق المعاصرة * النسق الاكسيومي * لا تتناقض مع النسق الاقليدي لان لكل نسق أسسه
الخاصة التي ينطلق منها .
إن الدرجة العالية التي وصل إليها علم الرياضيات في وقتنا الحاضر تؤكد بان هذا العلم
علم متطور ومتجدد يستفيد من النظريات الكلاسيكية * التقليدية * لبناء انساق جديدة ، مع
التأكيد على عدم وجود تناقض أو تعارض بين جميع الأنساق الرياضية وكل نسق جديد او
تجديد في الرياضيات إنما يخدم الرياضيات بالدرجة الأولى ، وبهذا أصبح اليقين في
الرياضيات مرتبطا بالنسق الذي يتبناه فقط ، وليس يقينا مطلقا .
الخاتمة :
وهكذا نستنتج في الأخير من طرحنا لإشكالية اليقين في الرياضيات ، بان الرياضيات ليست
يقينية يقينا مطلقا كما كان يعتقد العلماء في الماضي ، وإنما أصبح يقينها مرتبطا بسلامة
النسق وعدم تناقضه مع نفسه ، فتطور الرياضيات إذن لم يغير في طبيعتها من شيء ولكن
صحح من نظرة الإنسان إليها