الهجرة غير الشرعية
قوارب الموت وأحلام الشباب العربي
الأستاذ نعمان عبد الغني
قضية هجرة الشباب عبر البحر المتوسط بطريقة غير شرعية احتلت مساحة واسعة من اهتمام وسائل الإعلام وعدد من منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية والإقليمية في الآونة الأخيرة. خصوصاً بعد أن باتت قضية الهجرة غير الشرعية مشكلة تؤرق الدول المستقبلة لهؤلاء المهاجرين وعلى رأسها دول أوروبا التي تعتبر المستقبل الأول للمهاجرين غير الشرعيين من دول شمال إفريقيا.
غير أن هذا الاهتمام الكبير من قبل حكومات دول الاتحاد الأوروبي وكذا الحكومات المحلية لدول جنوب المتوسط ركز بشكل أساسي على ضرورة وقف فلول الهجرة غير الشرعية إلى شواطئ أوروبا بآليات أقل ما توصف بها أنها أمنية إذ تتجاهل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع بالشباب إلى التضحية بأرواحهم في سبيل إيجاد فرصة عمل وتحقيق حلمهم بحياة أفضل، فركزت معظم المشروعات المشتركة بين الحكومات الأوروبية وحكومات دول شمال إفريقيا على منع هؤلاء الشباب من التسلل بالقوة سواء عن طريق إنشاء معسكرات احتجاز أو دعم الإتفاقات الأمنية المشتركة التي تتيح تسليم المهاجرين إلى حكومات بلدانهم أو عن طريق الدعم المادي واللوجيستى لحكومات شمال إفريقيا لتشديد الحراسة على الحدود وتعقب المهربين والمهاجرين أنفسهم.
مصطلح الهجرة غير الشرعية كما هو معروف بشكل مكثف ويومي في وسائل الإعلام. بالتركيز على جانبه المثير وحتى الإنساني مع إهمال جوانب أخرى فيه لاتقل إثارة أو إقلاقاً.. فالتركيز الإعلامي ولاسيما المرئي يتم على عشرات ومئات اللاجئين الغرقى أو الناجين بصعوبة من حوادث السفن الرديئة والمتهالكة التي يركبونها لتقلهم خلسة إلى شواطئ أوروبا .
ومن ناحية أخرى بدأت وسائل الإعلام الحكومية في لعب دورها التغيبي المعتاد في القضايا الهامة لتبتعد بوعى الناس عن جذور المشكلة فأصبحت شاشات التليفزيون تصور الشباب المهاجر على أنهم مجرمين وأن هؤلاء الشباب يجرون وراء سراب الحياة السهلة بدلاً من بذل مجهود في وطنهم.
ومن الواضح أن دول المقصد لم تعد تتعامل مع هذه الظاهرة على أنها مجرد هجرة غير شرعية بل على أنها طوفان بشري ولهذا تتخذ مبادرات واسعة النطاق وإجراءات تنتهك كل الأعراف الديمقراطية المعلنة لاسيما في أوروبا الغربية.. ووصل الأمر إلى حد التدخل الفاضح والفظ في دول المنبع لفرض حكومات معينة يكون كل دورها منع المهاجرين كما وصلنا إلى وضع أصبحت فيه بعض دول المرور أو العبور تعرض خدماتها على الغرب بالذات لمنع مرور الهاربين أو المهاجرين عبر أراضيها لقاء المساعدات المختلفة وصولاً إلى تثبيت أنظمة حكمها والتمكين للحكام ولورثتهم.
رغم أن الهجرة تمثل واحدا من أكثر المفاهيم تداولا في الفترة الأخيرة فإنها غالبا ما يتم توظيفها بشكل ملتبس ومبهم، وذلك بسبب تباين الأطروحات المعرفية وزوايا النظر التي يتم من خلالها التعامل مع هذا المفهوم.
حيث يتجلى التباين في المستوى الاقتصادي بصورة واضحة بين الدول الطاردة والدول المستقبلة.
خلافا لما نجده في دول الاستقبال، فإن النمو الديمغرافي، رغم الوضعية المتقدمة لما يسمى بالانتقال الديمغرافي في الدول الموفدة، لازال مرتفعا نسبيا وهذا له انعكاس على حجم السكان النشيطين وبالتالي على عرض العمل في سوق الشغل.
وهكذا فإن البطالة تمس عددا كبيرا من السكان وخاصة منهم الشباب والحاصلين على مؤهلات جامعية. و تقدر نسبة البطالة في المغرب على سبيل المثال بحوالي %12 وتبلغ 21% في المجال الحضري، وفي الجزائر تصل هذه النسبة إلى 23.7% حسب المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي و15% في تونس. هذا الضغط على سوق العمل يغذي النزوح إلى الهجرة خاصة في شكلها غير القانوني.
ومن أجل الحد من هذه الظاهرة، فإن ذلك يقتضي تنمية فاعلة ومستدامة قادرة على خلق حوالي مليون فرصة عمل سنويا بالنسبة لدول المغرب العربي الثلاث: المغرب (400 ألف فرصة عمل، الجزائر ( 500 ألف فرصة عمل) وتونس 100 ألف فرصة عمل).
ومن انعكاسات ظاهرة البطالة زيادة حجم الفقر وقد بلغت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في المغرب مثلا ما يقرب من 14% وهذه النسبة كانت ستزداد كثيرا لولا التحويلات والاستثمارات التي يقوم بها المغاربة المقيمون في الخارج.
ويشكل التباين في الأجور كذلك عاملا للتحفيز على الهجرة حيث الحد الأدنى للأجور يفوق بـ3 إلى 5 مرات المستوى الموجود في دول المغرب العربي، على أن هذا الحد لا يحترم أحيانا من طرف أرباب العمل.
وتجدر الإشارة هنا إلى وجود طلب نوعي على العمل في دول الاستقبال، هذا الطلب يستجيب وفقا لمعايير كلفة تشغيل العامل ومرونته في قبول أعمال صعبة حسب احتياجات سوق العمل وغالبا ما تكون هذه الأعمال مؤقتة ومنبوذة اجتماعيا. هذا الطلب يصدر أساسا عن قطاعات كالفلاحة والبناء والخدمات.
كل هذه العوامل تغذي الرغبة في الهجرة، وهذا النزوح هو أقوى عند الشباب كما تدل على ذلك مختلف المسوح التي أجريت في هذا الشأن في دول المغرب العربي والتي تبرز بعضها أن الرغبة في الهجرة في المغرب موجودة عند 19% من السكان النشيطين وهي أعلى عند عن الطلبة حيث تبلغ 54%.
إذا كانت الهجرة بصفة عامة تطرح مشكلات خاصة بها تتعلق أساسا بالاندماج وتمتع المهاجرين بكافة الحقوق وفقا للقوانين المحلية والدولية، فإن الظاهرة الأكثر إثارة للقلق تتعلق بالهجرة غير الشرعية أو السرية.
ومع أن هناك جهودا تبذل للحد من هذه الظاهرة فإنها تظل محدودة النتائج طالما أن هذه الدول ليست لها الإمكانيات اللازمة لمراقبة حدودها البرية وشواطئها البحرية التي يعبر منها الجزء الأكبر من المهاجرين سرا.
ومع غياب إستراتيجية أوروبية أفريقية لمحاربة الهجرة غير الشرعية فإن الأمر لم يخل من بعض المبادرات المشتركة كإطلاق مبادرات مشتركة بين الدول المجاورة لمراقبة الحدود البحرية. و تنسيق التعاون الأمني على مستوى المعلومات والمعطيات لتفكيك الشبكات العاملة في هذا الإطار. والسعي في ظروف سياسية خاصة مع وصول حكومات يسارية أكثر اهتماما بالمعاناة الاجتماعية إلى تسوية أوضاع هؤلاء المهاجرين السريين انطلاقا من بعض الشروط وفي ظل ما يسمى بنظام الحصص،
لكن هذه الخطوات تبقى محدودة ولا يمكن أن تستوعب كافة المهاجرين المقيمين، وفي نفس الوقت لا يمكن أن توقف بشكل فعال من هذا المد. وتبدو هذه الآليات ذات الطبيعة القانونية الأمنية لحد الساعة محدودة التأثير، ومن ثم هناك قناعة واضحة لدى الطرفين -وخاصة دول جنوب البحر الأبيض المتوسط- وكذا العاملين في المجتمع المدني بأنها لا يمكن أن تكون فعالة إلا من خلال إعادة تدبير ظاهرة الهجرة برمتها، ومن ثم لا يبقى هذا الهدف ظرفيا وإنما يندرج ضمن إستراتيجية بعيدة المدى تتطلب إصلاحات عميقة على مستوى دول المنبع ومساهمة مادية على مستوى الدول المتقدمة المستقبلة لليد العاملة. وبصيغة أخرى فإن تحقيق هذا الهدف يتطلب تنمية مستديمة قائمة على مشاريع وإنجازات ملموسة تسمح بتثبيت المواطنين في أماكن إقامتهم الأصلية. وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى إعلان برشلونة الذي شكل مقاربة شمولية تحتاج إلى إرادة وانخراط للدول الأوروبية المتوسطية لإنجاحها.
خلاصة القول أن ظاهرة الهجرة السرية ليست مسألة ظرفية بل باتت مكونا هيكليا ما زالت الآليات المستخدمة لحد الساعة غير قادرة على تدبيره بشكل يحد من آثاره وانعكاساته سواء على دول المنبع أو الدول المستقبلة.