ـ سوزان بلاكابي
في هذا العدد نتعرض إلى التنوع البيئي والحيوي للكائنات الحية القاطنة في الغابات المطيرة , وكيف يؤثر مستوى ارتفاع الأشجار في هذه الغابات على الظروف البيئية السائدة , ممن حرارة ورطوبة جوية وإشعاع شمسي , وكيفيةى تأثير ذلك على نمو النباتات والأشجار , وعلى حياة الحيوانات , وتنوعها وسلوكها في هذه المناطق الشاسعة من العالم .
ولقد أوضح العديد من الدراسات البيئية والحيوية , قدرة كثيرة من الكائنات الحية في التأقلم على التغيرات الموسمية المستمرة , والتغيرات الدائمة في العوامل المناخية , فهل تستطيع هذه الكائنات الحية الاحتفاظ بتنوعها الحيوي أمام هذه التغيرات ؟ .
تعال معنا في هذه الرحلة الاستكشافية المثيرلاة للغابات المطيرة لتكشف معنا حقيقة الحياة هناك .
أصوات متداخلة ما بين تغريد الطيور وصراخ ( عواء ) القرود , بينما يواصل النمل زحفه عميقا داخل غابان " الأمازون " المطيرة , صاعدا جذور الأشجار ليصل إلى الأوراق , فيبدأ في تقطيعها بفكيه القويين , وتكاد تسمع صوت فكوك النمل وهي تمزق أوراق الأشجار , ويزداد الصوت ارتفاعا كلما كانت الأوراق شهية وعصيرية , وكلما انتهت نملة من تقطيع جزء من ورقة النبات , حملته فوق رأسها مثل العلم , ثم تصطف طوابير شغالات النمل في صفوف طويلة , عائدة إلى عشها بما تحمله من غذاء لها ولعشيرتها .
هل تتخيل أن لهذه النملة آثارا , وأن هناك من يتتبع هذه الآثار بلهفة محاولا الوصول إلى أعشاشها ؟
نعم ليس النمل خو وحده هنا , قبله آلاف الكائنات , وبعده كذلك , وكلها تعيش على بعضها , هذا النمل هو غذاء آكل النمل العملاق , الذي يلعق بلسانه في المرة الواحدة الآلف من حشرة النمل , وقد لا ينجو هو من مخالب نمر مترقب خطواته الخاطئة .
تعج الغابات المطيرة بمختلف مظاهر الحياة من المناطق المنخفضة فوق أرضيتها حتى أعلى نقطة تصلها أشجارها الباسقة , هنا مثلا في حوض " الأمازون " تجد الغابات المطيرة الأكبر حجما من نوعها في العالم , إذ تعتمد النباتات و الحيوانات على بعضها البعض للبقاء على قيد الحياة , فحياة كل كائن تتوقف على وجود الكائن الآخر المرتبط به , وبق اء الحيوانات المفترسة مرهون بوجود الفرائس , وتحتاج النباتات إلى الحشرات , حيث يلعب كل كائن في الغابة دورا في الحياة هناك , فعلى سبيل المثال , يقطع النمل ما يقدر بسدس أوراق الأشجار في الغابة تقريبا , مما يساهم في الحفاظ على حيوية الأشجار وسلامتها , وهكذا تتكامل الكائنات الحية عبر طبقات الحياة المختلفة في الغابة , ضمن نظام يعرف بالنظام البيئي Ecosystem .
ـ ازدحام حيوي :
ما هي الغابات المطيرة؟.
الغابات المطيرة هي غابات بها أشجار عالية , ويسودها طقس دافئ , وتهطل بها الأمطار بغزارة , وهي توجد بالمناطق لمدارية بالعالم , مثل " إفريقيا " , " أستراليا " " أمريكا الوسطى " و " الجنوبية " , ومن بين هذه الغابات نجد غابات " الأمازون " المطيرة هي الأوسع والأكبر في العالم , حيث التنوع الحيوي الزاخر بها , ترى لماذا تحتل الغابات المطيرة كل هذا الاهتمام بين الأوساط العلمية في العالم ؟
في الواقع أهمية هذه الغابات أو النظم البيئية لا تتوقف عند رحلات المستكشفين أو داخل معامل المتخصصين من العلماء , بل تمتد أهميتها بحسب دورها الذي تقوم به في حفظ التوازن البيئي على سطح الأرض , ما يضمن بقاء الحياة فيها , ولا نبالغ إذا قلنا أنها هامة إذا ما نظرنا على النظام البيئي العالمي , فهي توفر المأوى للعديد من النبتات والحيوانات , وتساعد على استقرار المناخ العالمي , بل هي الحل الوحيد لمشكلة التغيرات المناخية التي يخشاها الجميع , وتحمي اليابسة من الفيضانات أو من الجفاف .
تذكر
تبلغ مساحة غابات " الأمازون " المطيرة خمسة ملايين كيلومتر مربع , وهي تمثل موطنا لنصف أنواع حيوانات ونباتات الأرض
ـ دورة الماء :
هل تلعب النباتات الكثيفة في الغابات المطيرة دورا في الحفاظ على البقاء ؟.
الإجابة نعم , إذ تساعد الغابات المطيرة في الحفاظ على دورة الماء الطبيعية , وهي الدورة التي تصف تحرك لماء المستمر على سطح لكرة الأرضية , وتعمل الغابات المطيرة من خلال النبتات الموجودة بها على زيادة نسبة الماء في الجو ( الرطوبة ) , ويحدث ذلك خلال عملية التبخر , إذ تفرز الأشجار الماء أثناء عملية التمثيل الضوئي , والذي تصنع من خلاله غذاءها , باستخدام العناصر والأملاح المعدنية الموجودة في التربة , وبمساعدة ضوء الشمس .
وهذه الرطوبة تساهم في تكوين السحب الممطرة , وبدورها تعيد هذه السحب الماء إلى مجراه الطبيعي ما بين الأنهار والمحيطات , ليتبخر من جديد بفعل الشمس , ثم تسقط على الغابات المطيرة , ثم يعود أثناء التمثيل الضوئي إلى السحب , لتمطر من جديد , وهكذا .
ويقد العلماء بأن حوالي 50 ـ 80% من إجمالي الرطوبة النسبية في العالم تكمن في دورة ماء الغابات المطيرة , وخاصة غابات " الأمازون " وبالتالي عندما تقطع الغابات تقل نسبة الرطوبة في الجو , فتقل الأمطار وتؤدي بذلك إلى الجفاف .
ولكن ليس هذا كل شيء , فجذور الأشجار العملاقة ونباتات الغابة تساعد على عملية تثبيت التربة , حتى إذا واجهتها الرياح أو سقطت عليها الأمطار بغزارة لا تسبب في انحراف العناصر الهامة من التربة , أو إذابة الأملاح المعدنية الموجودة بها , وبالتالي لا يحدث فقد في خصوبة تلك الأراضي .
لا يتوقف دور الغابات المطيرة على دور المناخ ومعدلات الرطوبة , بل إنها تقوم من خلال أشجارها العملاقة ونباتاتها الكثيفة والمتنوعة بامتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون Co2 , وهو الغاز المتسبب في الاحتباس الحراري من الجو , وبهذه الطريقة يتخلص الكوكب من نسبة كبيرة من انبعاثات هذا الغاز , بالإضافة إلى أن هطول الأمطار المستمر على تلك المناطق يؤدي إلى تحسين درجات الحرارة بشكل عام .
لماذا توجد كل هذه الأنواع من النباتات والحيوانات بالغابات المطيرة ؟ .
الإجابة هي :
تضم الغابات المطيرة أكبر تنوع من الكائنات الحية الموجودة على سطح الأرض , رغم أن مساحتها أقل من 2% من إجمالي مساحة الكرة الأرضية , ويوجد بها أكثر من 170 ألف نوع نباتي من إجمالي 250 ألف نوع من النباتات موجودة على سطح الأرض , ويرجع ذلك إلى عدة أسباب , منها :
أن الشمس تغمر تلك الغابات بأشعتها بشكل مباشر ودائم , مما يسهل عملية تحويل تلك الطاقة إلى غذاء , ونتيجة لوفر الطاقة تحصل الحيوانات آكلة العشب على كمية كبيرة من لطاقة تسمح لها بالنمو والتكاثر .
كما أن تنوع الأشكال والأحجام للنباتات في الغابة يوفر المخبأ و الملجأ الآمن للحيوانات , وتساعدها على الفرار من أعدائها الطبيعية , مما يتيح لها زيادة أعدادها .
ترى ما هي وظائف طبقة قمم الأشجار ؟ .
تنحصر وظائف طبقة قمم الأشجار في خمس مهام حيوية رئيسية :
ـ المهمة الأولى :
هي الاحتفاظ بالرطوبة , وللقيام بتلك المهمة تجد أوراق الأشجار العريضة تعمل وكأنها مظلة حامية تقلل من سرعة الرياح , وتحافظ في نفس الوقت على تخزين الرطوبة المتبقية من تأثير هطول الأمطار .
ـ والمهمة الثانية :
هي تثبيت درجات لحرارة , وكأن نباتات هذه الطبقة تعد واقيا لأشعة الشمس الحارقة , فإنها بأشجارها الكثيفة تعمل على حجب الحرارة المنبعثة من أشعة الشمس بما يحافظ على ثبات نسبي في معدلات درجات الحرارة هناك أثناء الليل والنهار .
ـ والمهمة الثالثة :
هي مهمة الحفاظ على التربة ومكوناتها من أن يجرفها الهطول القوي والمستمر لمياه الأمطار , فيعمل على جرف العناصر المعدنية الموجودة بالتربة .
ـ والمهمة الرابعة :
هي مهمة المأوى , فهذه الطبقة كما ذكرنا سابقا تعد من الطبقات الغنية جدا بصور الحياة المتنوعة .
ـ وآخر مهمة لهذه الطبقة :
هي مهمة توفير الغذاء للحيوانات والكائنات التي تعيش في الطبقات الأسفل منها , ويتم ذلك عن طريق قذف ثمار الأشجار أو إسقاطها بواسطة الحيوانات التي تعيش وتتنقل عبر هذه الطبقة .
ولعل الحضارات القديمة , مثل حضارة " المايا " , " الإنكا " , " الآزتيك " التي لا تزال يكتنفها الغموض و الأساطير , , خير دليل على نجاح تلك البيئة الطبيعية في الاستمرار عبر تلك السنوات .
تذكر :
تتميز طبقة أرضية الغابة ( سطح الأرض ) بهوائها الدافئ الرطب , وهي مظلمة عادة , وغالبا ما تكسو أرضية الغابة أوراق الأشجار المتساقطة والفاكهة المتعفنة , وتقوم الحشرات والبكتيريا والفطريات بتحليل بقايا الأحياء الميتة , وتفكيك المواد العضوية إلى عناصر غذائية بسيطة .
تذكر :
إذا ارتفعنا إلى نحو 18 مترا فوق أرضية الغابة سنجد الطبقة الوسطى understory التي تتميز بحركة الهواء المحدودة , نظرا لكثافة وتداخل فروع الأشجار , لذا تلجأ النباتات إلى الحشرات لنقل حبوب اللقاح من زهرة إلى أخرى , كما تتكون الثمار قريبة من سطح الأرض , لتكون في متناول الحيوانات العابرة التي تنقل البذور إلى أماكن جديدة في الغابة .
ـ تدمير الغابات :
يقصد بها الإزالة العشوائية للغابات الطبيعية عن طريق قطع الأشجار أو حرقها , وهناك عدة أسباب لحدوث ذلك , حيث يقوم الأهالي الفقراء في هذه المناطق ببيع الأشجار أو الفحم النباتي ـ الناتج عن حرقها ـ كسلعة تجارية تع عليهم ببعض المال , في حين تستخدم الأرض التي تم قطع الأشجار فيهل كمراع للحيوانات وزراعة المحاصيل الاقتصادية , مثل نخيل الزيت الذي أدت زراعته بمساحات كبيرة في " إندونيسيا " إلى تدمير مساحات شاسعة من الغابات الاستوائية هناك .
كما عمدت بعض الحكومات إلى إزالة الغابات لشق الطرق وبناء المدن والمجتمعات السكنية .
ولقد أدى الصيد لجائر للحيوانات البرية في تلك المناطق بالإضافة إلى قطع الأشجار , إلى انحسار التنوع البيولوجي ـ ويقدر العلماء أن العالم يفقد ما يقدر 137 نباتا و حيوانا وحشرة يوميا بسبب إزالة الغابات المطيرة , وهو ما يعال 50 ألف نوع في السنة ـ وأيضا إلى التصحر نتيجة انجراف طبقة التربة الزراعية وتعريتها بواسطة الأمطار الشديدة التي تكتسح الطبقة العليا الخصبة من التربة , وكذلك هبوب الرياح التي تعصف بهذه الطبقة عند جفافها , وهذا كله يحول منطقة الغابات العامرة بالتنوع الحيوي للكائنات الحية النباتية والحيوانية إلى منطقة قاحلة عديمة الحياة .
واليوم يهدد النمو السريع لسكان العالم وزيادة الطلب على الموارد الطبيعية معظم الغابات الاستوائية المطيرة .
وتسبب أعمال التعدين الضخمة وتربية الماشية ومشروعات إنتاج الخشب أيضا في حدوث أضرار كثيرة .
ويقدر العلماء أنه يتم تدمير نحو 5,5 إلى 22 مليون هكتار من الغابات الاستوائية المطيرة سنويا .
وذكرت دراسة علمية في مجلة " نيتشر " Nature البريطانية , أن الجفاف والتصحر يهدد غابات " الأمازون " الاستوائية الممطرة , والتي تشكل عاملا رئيسيا في استقرار وتوازن النظام البيئي العالمي , وأنماط مناخ كوكب الأرض .
كما يخشى العلماء أن تؤدي الزيادة في تدمير الغابات إلى حدوث تأثيرات بيئية سيئة , فإن حرق أشجار الغابات من أجل تطهير الأرض يطلق أطنانا من ث3اني أكسيد الكربون , الذي يسهم في ظاهرة الاحتباس الحراري , كما أن قطع الأشجار الخضراء التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي سوف يؤدي إلى انخفاض مستويات الأكسجين في الجو .
بإمكانك التعرف أكثر على أنماط الحياة على مستويات مختلفة داخل بيئة الغابات المطيرة , حيث نجد أنواعا مختلفة من الكائنات الحية وقد تكيفت مع ظروف بيئتها المختلفة , اقرأ ذلك في " مستويات حية " التالية .
تذكر :
تعد طبقة الأشجار the Canopy الأكثر ازدحاما بالكائنات الحية في الغابة الاستوائية , حيث تتداخل فروع الأشجار وتمتد كثيرا , لتتشابك مع بعضها البعض بما يكوّن سقفا كثيفا يرتفع عن أرضية الغابة مسافة 40 مترا .
نصل إلى آخر قسم من أقسام المرتفعات الحية في الطبيعة , وهو طبقة تفرع جذور الأشجار Emergent Layer والتي تمثل القمم العالية لأشجار الغابة المطيرة الباسقة , حيث تواجه الحيوانات ظروفا قاسية للبقاء , حيث تنهمر الأمطار بغزارة , وتلفحها أشعة الشمس وتهب عليها الرياح العاصفة , لذا من المنطقي أن نجد أوراق الأشجار قي هذه الطبقة صغيرة وصلبة لمواجهة الرياح , بينما يساعد الغطاء الشمعي الذي يكسوها على الاحتفاظ بالمياه داخلها على الرغم من شدة الحرارة هناك .
ـ مستويات حية :
تضم الغابة المطيرة أربع طبقات حيوية , حيث تحيا معظم الحيوانات في طبقة قمم الأشجار Canopy , وتتميز هذه الطبقة بتعرضها لأكبر قدر من ضوء الشمس ومياه الأمطار .
بإمكانك التعرف على طبقات الحياة المختلفة وبعض الكائنات الحية التي تعيش فيها بشكل مبسط من خلال هذا التوضيح :
ـ على ارتفاع 6 أمتار :
أرضية الغابة :
تتميز أرضية الغابة بهوائها الرطب وظلمتها , وفيها تنتشر حيوانات التابير tapirs , والخنافس beetles في أرجائها بحثا على الغذاء , كما تشاهد النمور الأمريكية Jaguars في هذه المنطقة وهي تتسلق الأشجار .
ـ على ارتفاع 18 مترا
الطبقة الوسطى :
تعلو هذه الطبقة في أرضية الغابة مباشرة , وتنمو فيها كل من الشجيرات والنباتات المعترشة المتسلقة والأشجار التي تتنافس فيما بينها في الحصول على ضوء الشمس .
كما تتجول الحيوانات هناك متسللة في الظلام , ومنها حيوانات النمور الأمريكية ocelots , والعناكب spiders , والخفافيش bats , والثعابين snaks , وتعتمد بعض هذه الكائنات على التنقل إلى الطبقات السفلى والعليا .
ـ على ارتفاع 40 مترا
طبقة قمم الأشجار :
في هذه الطبقة تتقارب قمم الأشجار العالية مع بعضها , مكونة ما يشبه السقف فوق أرضية الغابة , وتعيش معظم الحيوانات في هذه
الطبقة , مثل طيور الطوقان toucans , وحيوانات الكسلان sloths , كما تعيش الضفادع frogs , والقردة monkeys في هذه الطبقة .
ـ على ارتفاع 60 مترا
طبقة تفرع جذوع الأشجار :
وفيها تتشابك الفروع الكثيفة جدا مع بعضها البعض , زتتميز هذه الطبقة بقوتها وقدرتها على تحمل الظروف القاسية , بسبب هطول الأمطار الغزيرة , و أشعة الشمس الحارقة والرياح القوية .
كما تعيش معظم الطيور في هذه الطبقة مثل النسر الخطاف harpy eagle , وببغاوات الماكاو macaws , والفراشات butterflies .
ـ المرجع :
ـ مجلة NATIONAL GEOGRAPHIC للشباب ـ الطبعة العربية ـ العدد 53 ـ جوان 2011
ـ ألحوظة : البحث نقل بلفظه ( حرف بحرف ) .