إن سنن الله لا تتغير ولا تتبدل
وهي ماضية في الآخرين كما كانت في الأولين
والقرآن حين يتحدث عن الأمم الماضية وما حل بها من الهلاك والبوار
إنما مقصوده الإنذار والتحذير
وأخذ العبرة من هلاك الأمم السابقة وتجنب أسباب ذلك
أخي الحبيب:
لقد جاءت آيات عقَّب الله بها على قصة ثمود مع أخيهم صالح ـ عليه الصلاة والسلام ـ
حين دعاهم إلى الحق والهدى فما استجابوا له ، بل تكبروا وعتوا عتواً كبيراً ، وما كان من الملأ من قومه
إلا أن ائتمروا به وبأهله ، رغبة منهم في إهلاك نبي الله والقضاء عليه وعلى أهله لئلا يبقى لهم أثر
كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله
{ وَكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ
لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ }
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ ( يخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال
والكفر وتكذيب صالح ، وآل بهم الحال إلى أنهم عقروا الناقة وهمُّوا بقتل صالح أيضاً ، بأن يبيتوه في أهله
ليلاً فيقتلوه ، ثم يقولوا لأوليائه من أقربيه: إنهم ما علموا بشيء من أمره ، وإنهم لصادقون فيما
أخبروهم به من أنهم لم يشاهدوا ذلك )
ثم ساق ـ رحمه الله ـ بسنده عن عبد الرحمن بن أبي حاتم أنه قال: لما عقروا الناقة قال لهم صالح
{ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ }
قالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام ، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث ، وكان لصالح مسجد في
الحجر عند شعب هناك يصلي فيه ، فخرجوا إلى غار هناك ليلاً ، فقالوا: إذا جاء يصلي قتلناه
ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ففرغنا منهم ، فبعث الله عليهم صخرة من الهضب حيالهم
فخشوا أن تشدخهم فتبادروا ، فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار ، فلا يدري قومهم أين هم
ولا يدرون ما فُعل بقومهم ، فعذب الله هؤلاء ها هنا ، وهؤلاء ها هنا ، وأنجى الله صالحاً ومن معه
ثم قرأ { وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ
أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
أي يعلمون الحقائق ويتدبرون وقائع الله في أوليائه وأعدائه ، فيعتبرون بذلك ، ويعلمون أن عاقبة
الظلم الدمار والهلاك وأن عاقبة الإيمان والعدل النجاة والفوز ، ولهذا قال الله
{ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }
أي أنجينا المؤمنين الذين يتقون الله ويجتنبون معاصيه ، ويعملون بطاعته وطاعة رسوله
إن المتأمل في تاريخ الأمم يجد هذه السنَّة الربانية واضحة جلية ، فهذا فرعون لعنه الله لما دعاه
موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى الحق طغى وبغى وأرغد وأزبد ، وتوعد موسى وقومه أن يستأصل شأفتهم
كما ذكر الله قصته بقوله
{ وَقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ
قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ }
بل إنه زاد في طغيانه
{ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجِمِيعٌ حَاذِرُونَ }
فكانت النتيجة ما أخبرنا الله به بقوله ـ عز وجل ـ
{ فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ }
وهذا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تآمر المشركون على قتله وإنهاء أمره ، وتواعدوا على ذلك
فرح طغاتهم بالأمر ليتم لهم القضاء على ما جاء به ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحق والهدى ، كما قال ـ سبحانه ـ
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ }
فكانت النتيجة نجاة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وظهور أمره ، وفتح مكة ، وهزيمة المشركين
بل وإسلام كثير منهم ، وتلك حكمة العليم الحكيم
يا ـ أخي المسلم ـ والله إنك لا تستطيع أن تصل إلى معرفة الحقيقة إلا عبر هذا القرآن أولاً ، ولا يكون ما
دونه من طرق المعرفة إلا توابع له وملاحق ، فهو متن الرسالة التي أرسلها رب العالمين إلى الخلق
وما سواه شروح وتفاسير ، ويا لتعاسة من ضل عن هذا الأصل العلمي العظيم!
{ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم }
والبعيد عنه سيعيش ـ وربي ـ في التيه وسيسير على غير هدى .. قال ـ عز وجل ـ
{ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }
فهل نبتغي بغير القرآن تقويما وكمالا في جميع شؤون الحياة؟
وهل يوجد شيء أهم في حياة العبد من القرآن حتى يقدم عليه غيره؟
كلا! ... أما علمت أن دعاة الوسطية يريدونها عوجا ..
فيريدون أن تتحقق أهدافهم بين حق وباطل ، يقوم على النفعية وتجاذبات المصالح ، فيريدون أن
{ يأمنوكم ويأمنوا قومهم } فهؤلاء لا تعرف لهم وجه ولا ظهر
{مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء}
يريدونها على منهج { نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا }
ونحن إذا كنا نريد أن نفهم مثل هؤلاء فلا بد أن نفهم القرآن ونعي خطابه وبيانه ، مثل قوله
{ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } وقوله { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } وقوله { هدى للمتقين }
فما نصيبي ونصيبك من الهدى .. والشفاء .. والرحمة .. ؟!
ليفتش كل منا في نفسه عندما يسمع أو يقرأ قوله ـ عز وجل ـ
{ هو عليهم عمى } وقوله { ولا يزيد الظالمين إلا خسارا }
وقوله { وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا }
لا بد أن نعد أنفسنا لنكون محلا قابلا لأنوار القرآن بكثرة تلاوته
وتفهم معانيه ، وتدبر آياته ، وربط الماضي بالحاضر ...
تابع معي سلسلة { بدلوا نعمة الله .... }
ولا تحرمني من بالدعاء