حركة الأمير خالد السياسية 1919-1925
التمهيد
عرفت عرفت الجزائر تحولا جذريا في مقاومتها ضد الاحتلال الفرنسي مع مطلع القرن العشرين، و انتهجت فعل المقاومة السلمية بذلا من حركة المقاومة الشعبية التي لم تحقق الأهداف المرجوة منها، لاختلال التوازن بين المعتدي و المعتدى عليه. و تعد المرحلة ظاهرة صحية في بداية اليقظة الجزائرية، إذا ارتسمت في الأفق تيارات سياسية إصلاحية تدعو إلى المساواة في الحقوق بين الجزائريين و الفرنسيين، و لو أنها لم تكن مهيكلة أو منظمة تحت أي شكل من الأشكال الحزبية أو المنظمات القانونية، إلا أنها تعد إرهاصات أوجدت الأرضية الخصبة لميلاد الحياة السياسية و الأحزاب الوطنية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عند رجوع الشباب الجزائري الذي جند في الحرب، و الذي سوف يحمل عبء أول حركة سياسية منظمة، و يعتبر الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر من رواد هذا العمل السياسي، و الذي يعد بحق حلقة هامة في بداية تاريخ الجزائر السياسي المعاصر.
مولده و نشأتـه :
ولد الأمير خالد بن الهاشمي بن الأمير عبد القادر بمدينة دمشق بسوريا يوم 20 فيفري 1875 مستقر إقامة أسرته بعد مغادرتها الجزائر سنة 1848، و استقرارها بدمشق سنة 1854 .و نشأ خالد في دمشق قلعة العروبة و الإسلام، و بها تلقى معلوماته الأولية وتربى تربية صحيحة وسط كنف العائلة. و قد رباه والده تربية دينية قوية بعد أن حفظ القرآن و تعلم العلوم العربية والدينية وبرع فيها (1) .
و انتقل الأمير خالد رفقة والده إلى الجزائر، و بها تابع دراسته الإعدادية، و منها التحق بباريس لمزاولة دروسه بثانوية لويس الكبيرLOUIS LEGRAND سنة 1885. و كان الأمير الهاشمي يأمل أن يدخل أبنه إلى الكلية العسكرية سان سير Saint Cyr بباريس بعد نجاح ابنه في الحصول على شهادة البكالوريا فرع علوم، و كان يرى أن الحياة العسكرية
تعد من المراتب العليا وهي مصير مستقبل أبنه خالد حسب ما تضمنته مراسلة والده إلى السلطة الفرنسية التي أشار إليها م.ج.فاسي إلى السيد جول كامبون الحاكم العام في الجزائر وقتئذ حول مهمته كوكيل للتسيير و الإشراف على أملاك الأمير الهاشمي أبن الأمير عبد القادر(2).
والظاهر أن رغبة الأمير خالد لم تكن بادية لمزاولة دراسته في الكلية العسكرية الفرنسية، وكان رافضاً لفرنسا منذ شبابه، و تذكر المصادر التاريخية أنه رد على والده الذي أرغمه على الالتحاق بسان سير بقوله:"إنني عربي وأُريد أن أبقى عربياً وأن لا أتخلى أبداً عماَ أومن به وأعتقده من الآراء، ولذلك فأنا أرفض، وسوف أرفض دائما ما يطلبه مني أبي" (3).
و قد تنازل خالد على موقفه أمام رغبة والده في الدخول إلى الكلية العسكرية الفرنسية، وخصوصا بعد المضايقات التي تلقاها والده من قبل السلطة الفرنسية حول تصرفات خالد التي توحي بالعصيان المدني. وقد وجد خالد نفسه أمام رغبة والده وقبول نصائحه. و هكذا تابع خالد دراسته على مضض من غير ان تكون له رغبة فى ذلك، والتحق بسان سير سنة1892 (4).
وتذكر الكثير من الدراسات التاريخية حول مرحلة تواجد الأمير في سان سير أن هذا الأخير ظل محافظا على أصالته و إسلامه و وطنيته، وأعطيت له غرفة لأداء فريضة الصلاة كما خصص له طعام خاص مراعاة لقواعد الإسلام، و كان الأمير يشعر دائما بالخجل من الظهور أمام الجزائريين بالبذلة التي كان يرتديها السانسيريون، و يذكر فاسي في تقريره أن الأمير خالد كان دوما خلال إجازته يرتدي البذلة العربية التي كان فخورا بها، ولا ينزعها إلا عندما تدعو الضرورة للقيام ببعض الزيارات الرسمية (5).
مما يلاحظ أن الأمير خالد وجد صعوبة في التأقلم وسط محيط و عوائد كلية سان سير الفرنسية، و قد أشارت التقارير الفرنسية يومئذ إلى أن الأمير خالد كان سيء الطوية و النوايا إزاء فرنسا، الأمر الذي دفع به إلى التخلي عن الدراسة بالكلية سنة 1895 (6).
وقد أشار خالد إلى مقاطعته للدراسة, خلال إجازته الثانية في الجزائر، و كتب يقول:"نعم ها أنا مرة أخرى في الجزائر، و كنت قد بدأت أشعر بالضجر من مدرستهم التي لن أعود إليها، لأنني قررت أن أقدم إليهم استقالتي" (7).
وحسب ما ذكره فاسي فإن الشروط التي تقدم بها الأمير الهاشمي له حول إمكانية عودة ابنه للدراسة كانت من إملاء خالد، و تتمثل في اختياره للفيلق العسكري الذي ينتمي إليه،حتى لا يجبره أحد على محاربة العرب في الجزائر، و قد اغتاظ فاسي من ذلك .
و أعتبر شروط خالد مبالغ فيها، خصوصا إذا علمنا و أن مهمة فاسي هي الترويض و التجسس على عائلة الأمير الهاشمي في الجزائر و حتى خارجها.
و مع تزايد تعنت الأمير خالد و مواقفه الصعبة تجاه فرنسا من جهة، و نشاطاته المكثفة مع الشباب الجزائري من جهة أخرى، عززت الإدارة الفرنسية المراقبة عليه. خصوصا و أنه كان يسافر إلى داخل الوطن، و قد أشار فاسي عدة مرات إلى تنقلات الأمير خالد و بالخصوص سفره إلى مدينة قسنطينة. و كل ذلك دفع بالإدارة الفرنسية إلى اتخاذ إجراءات وقائية ضده تخوفا من فراره إلى الخارج، و عمدت إلى ترحيل العائلة إلى منطقة بوسعادة و وضعها تحت الإقامة الجبرية حتى يكون بعيدا عن منطقة الشمال التي تتوفر على مؤهلات العمل السياسي (8).
و برغم أن عائلة الهاشمي لقيت من يرحب بها في منطقة بوسعادة ،فإن ذلك قد أنقص من عزيمة خالد، و لذلك فقد التحق مجددا بالكلية العسكرية. و بعدما أنهى دراسته بها انخرط في سلك الحياة العسكرية في الجيش الفرنسي سنة1896. و ارتقى إلى رتبة ضابط بتاريخ 11 سبتمبر1897، وأدى واجباته العسكرية في إقليم الشاوية بالمغرب الأقصى سنة 1907 . وفيها ارتقى إلى رتبة قبطان سنة 1908.
وهناك جملة من العوامل التي أثرت إيجابا في تكوين الأمير، و تحصيله سياسيا و وطنيا يمكن جمعها في النقاط التالية :
1- انتسابه إلى عائلة الأمير عبد القادر ذات المرجعية الدينية التي أهلتها لخوض حركة الجهاد و المقاومة ضد الغزاة الفرنسيين المحتلين مدة طويلة من الزمن.
2- اعتماده على المرجعية التاريخية لعائلته التي تركت الأرزاق و العقارات وهاجرت إلى بلاد الشام، وظل الأمير خالد من المطالبين بإعادتها لأملاك العائلة .
3- تربيته في بلاد الشام وسط محيط المهاجرين الجزائريين الذين ظلوا على ولائهم للوطن الأم الجزائر، و وسط هذا الجو العربي اكتسب خالد طفولته الأولى المفعمة بحب الوطن.
4- معاينة الأمير لمرحلة من شبابه للوضع في الجزائر، و هي خاضعة للإجراءات الفرنسية التعسفية التي طبقت على الأهالي و خصوصا قانون الإنديجينا البغيض قد اثر ذلك نفسيته.
5- تكوين الأمير في المدرسة الفرنسية أكسبته حقائق كانت غائبة لديه، كما زودته بعامل اللغة الفرنسية، و قد مكنت الأمير من الخوض في قضايا سياسية و فكرية و مخاطبة فرنسا بلغتها أكسبته المزيد من التعرف بقظايا عصره .
6- خدمته في الجيش الفرنسي، و مشاركته في الحرب العالمية الأولى أكسبته الخبرة العسكرية، و حتى السياسية، بعد أن عايش وقائع الحرب في جبهات القتال، و وقف بنفسه على عنصرية فرنسا تجاه المجندين الجزائريين و كيف كانت تتعامل معهم .
7- تأثر الأمير بحركة عمه الأمير عبد الملك ضد الفرنسيين في المغرب الأقصى ما بين 1915 و 1925، و قد استوحى الأمير خالد نشاطه السياسي من حركة عمه، و كان يرغب في تمثيل ذلك في أرض الجزائر، بغية الحصول على الحقوق السياسية و المدنية للجزائريين (9).
2 -أوضاع الجزائر و العالم عشية نشاط الأمير خالد:
لقد عرفت الجزائر قبيل الحرب العالمية الأولى نشاط حركة النخبة الجزائرية التي بدأت سعيها في إطار الأبوة الفرنسية، برغم جدية أمالها بعد صدور قانون التجديد الإجباري في 3 فبراير 1912و الذي أصبح حديث الساعة بين كافة الجزائريين مع اختلاف مشاربها الثقافية و السياسية بما فيهم الطبقة الشعبية البسيطة.
ومن تم وجد أعضاء لجنة الدفاع عن مصالح المسلمين الجزائريين التي تأسست في العاصمة سنة1908 نفسها و كأنها موكلة للدفاع عن الجزائريين أمام عنصرية قانون التجنيد، و تعسف بنوده الخاصة بالجزائريين مقارنة بما يطبق على الفرنسيين (10).
وتعد هذه الجماعة هي السباقة لأخذ زمام المبادرة و الدفاع عن مصالح المسلمين الجزائريين، وذلك في غياب التمثيل الشرعي و الوطني وقتئذ. باستثناء بعض المبادرات اليتيمة التي تجلت في الأفق عن طريق العرائض من طرف أعيان قسنطينة بزعامة عائلة ابن باديس ، وأهالي ندرومة بزعامة محمد بن رحال و نحوهما مع نهاية القرن التاسع عشر.
وإذا كانت مبادرة هذه الجماعة قد أعدها بعض المؤرخين بمثابة المبادرة الفعالة في نمو اليقظة الجزائرية مثل ما أشار إلى ذلك المؤرخ الفرنسي اندري نوشي في كتابة ميلاد الوطنية الجزائرية (11).
في حين أن هناك من يرى العكس من ذلك، و أن الفكر السياسي الذي تولد عن هذه المبادرة لم يرق إلى تبني المشروع الوطني الحقيقي للجزائريين.و قد أشار إلى ذلك الزعيم التونسي علي باش حمبة الذي تقابل مع الوفد الجزائري الذي سافر إلى باريس في صائفة 1912، و بعد أن طلب منه ضرورة العمل المشترك بينهما، أصيب بخيبة أمل لأن النخبة الجزائرية متشبعة بالأفكار اللائكية الرافضة للطرح الإسلامي بحسب قوله (12).
و رغم ذلك فإنه لا يمكننا تقزيم مطالب الوفادة الجزائرية لأنها مهمة زمنياً في وقت،لم تتكون فيه بعد الأحزاب السياسية, و التنظيمات الوطنية الفاعلة، و من جملة المطالب التي تقدم بها الوفد الجزائري وقتئذ نذكر ما يلي :
1- إن قانون التجنيد الإجباري جاء معاديا للديمقراطية، و هو ينطبق على الفقراء دون سواهم.
2- المدة الزمنية للخدمة العسكرية غير عادلة بين أبناء الأهالي و المعمرين.
3- تعويض الأهالي عن التجنيد بمبلغ250 ألف يعد إهانة لهم وهم بمثابة مرتزقة.
4- ضرورة بناء قانون التجنيد وفق مبادىء الثورة الفرنسية(الإخاء-المساواة – الحرية).
5- إلغاء قانون الأهالي التعسفي .
6- التخلي عن العمل بالأحكام الزجرية القاهرة .
7- التوزيع العادل للضرائب بين الجزائريين و المعمرين.
8- تَوسيع دَائرة التمثيل النيابي للجزائريين في المجالس المختلفة (13).
والظاهر أن الوضع العام في الجزائر خلال العشرية الأولى من القرن العشرين كان ينذر بالعديد من المخاطر. إذ تذكر المصادر التاريخية أن معارضة الشباب الجزائري(الجزائر الفتاة) لسياسة فرنسا وبخصوص قانون التجنيد كانت قوية في معظم أنحاء الوطن، إذ قابل المواطنون حاكم منطقة سيدي يعقوب بضواحي المدية بالرجم بالحجارة ،و نفس المصير تعرض له أيضا حاكم منطقة المعاضيد بضواحي برج بوعريريج، أما منطقة الأوراس فقد انتفض شبابها و تمرد ضد الإدارة الاستعمارية، ولم يستجيبوا لقرار التجنيد. وحضر منهم قرابة 25 شاب من مجموع 141 من المدعوين، و بنفس الغضب عبر شباب الغرب الجزائري، و انتفض أهالي ندرومة (مدينة الشيخ بن رحال )و امتثل للتجنيد شاب واحد من مجموع 160 من المدعوين ،كما هاجر شباب تلمسان إلى المغرب الأقصى حتى لا يجندون لخدمة العلم الفرنسي .أما مدينة قسنطينة فلم يتأخر شبابها هي الأخرى عن سياسة الرفض و الاستماتة في وجه سياسة الإدارة الاستعمارية، و قد صرح أحد أعيانها سنة1914 لرئيس المكتب العربي للشؤون الأهلية يقول:"بإمكانكم الزيادة في الضرائب و نحن قابلون ،لكننا لا نسلم لكم أبناءنا....." (14).
أما عن أوضاع العالم الخارجي، فقد كانت هي بدورها تعج بالحركات التحررية المنادية بالاستقلال، خصوصاً بعد ظهور حركة الجامعة الإسلامية وبروز أفكارها بين شعوب المستعمرات. ودعوتها إلى تجديد الدين الإسلامي ومحاربة البدع، وتنمية الشعور الوطني ورفض الاستعمار. وقد تأثر الجزائريون بالعديد من رجال الجامعة الإسلامية
أمثال جمال الدين الأفغاني (1838-1897) ومحمد عبده(1849-1905) ورشيد رضا (1865-1935) ونحوهم من زعماء الإصلاح الإسلامي .
كما كانت لإسهامات السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في شؤون الدولة العثمانية وقعه الفعال على الذهنية الإسلامية، وكذا المطالبة بالوحدة وجمع شمل المسلمين،وفي ذلك الصدد يذكر أبو القاسم سعد الله أن الجامعة الإسلامية شجعت الهجرة الجزائرية باتجاه بلدان المشرق العربي، وانضم الجزائريون إلى لجان هذه الجامعة التي أنشئت لتمثل المسلمين الذين كانوا تحت الحكم الأوروبي (15).
ومن بين الأحداث الهامة أيضا التي هزت مشاعر الجزائريين الاعتداء الإيطالي على ليبيا سنة 1911، وقد ساند الشعب الجزائري إخوانهم في ليبيا ماديًا و معنويًا،وذلك بجمع التبرعات و الكتابات الصحفية، و كانت دعوة عمر بن قدور الجزائري الصريحة إلى الوقوف إلى جانب الأخوة الليبيين، وقد نشرها في جريدة الحضارة التي جاء فيها:"وتنصب الدسائس على بلاد العرب وتروج فيها الأكاذيب الأجنبية وتقوم الفتن في كل ناحية وتنتهك حرمة بيضة الإسلام ويزري بها أهلها ويتبرأ منها ذووها، هناك يود كل موحد لو أن رأسه حز عنه نخيل راحة طرابلس الغرب برقة دون أن يعاين هذا المصاب الجهل ولعذاب الآخرة أكبر. فليتق الله أرباب الأمر في طرابلس الغرب ويرقة إن كانوا يعقلون..." (16).
كما شهدت الفترة ميلاد حركة ثقافية و فكرية تمثلت في ضرورة الإحياء التاريخي، والبحث عن ماضي الأجداد ونفض الغبار عن الماضي، ونبذ ذاكرة النسيان.
وظهرت الكثير من الكتابات التاريخية ككتابات ابن عمار سنة1902، وابن مريم سنة 1907، و رحلة الورتلاني 1908، و موسوعة تعريف الخلف برجال السلف للشيخ الحفناوي1907، و كل ذلك يعد بمثابة تأسيس المدرسة التاريخية الجزائرية (17).
ومن المعالم المساهمة في اليقظة الجزائرية وقتئذ بروز حركة صحفية وطنية نشيطة عالجت القضايا الجزائرية، و لعل الدارس لمرحلة ما بين 1900و 1925 يجد ميلاد العشرات من العناوين الصادقة و المعبرة عن الانتماء الوطني و الديني المتأصل في تاريخ الجزائر و من هذه العناوين نذكر: جريدة المغرب 1903 و المصباح 1904، و الهلال 1906، و كوكب إفريقيا 1907، و الجزائر 1908، و الحق الوهراني 1911، و الإسلام 1912، والفاروق 1913، و ذو الفقار 1913، و الصديق 1920، و النجاح 1919، و الإقدام 1920 والفصيح 1921، و لسان الدين 1923، و التقدم 1923، و المنتقد 1925، و الشهاب 1925، و صدى الصحراء 1925. (18)
3 - نشاط الأمير خالد في الجزائر :
يبدو أن الإدارة الفرنسية كانت تراهن دوماً على توظيف أبناء العائلات الأهلية التي رسمت لنفسها مرجعية في التاريخ، و من تلك العائلات عائلة الأمير عبد القادر، ولذلك فلا غرابة أن نجد نشاطات الأمير خالد في مرحلتها الأولى تنصب في هذه الرؤية في بعض الأحيان، إذا أدى واجباته العسكرية في المغرب الأقصى سنة 1907، وارتقى إلى رتبة قبطان سنة 1908، بعدها اتضح للسلطات الفرنسية أنه من أنصار السلطان مولاي عبد العزيز ضد مولاي حفيظ المطالب بالعرش.
ومع أن خدمات الأمير كانت لصالح الإدارة الفرنسية،إلا أن هذه الأخيرة لم تضع كل ثقلها في الرجل،و كانت حذرة من نشاطاته، و لعل ذلك ما كشف عنه المارشال ليوتي سنة 1912 أنه توجد في شخص الأمير ملامح الشغب والاضطراب (19).
وخلال سنوات 1913 إلى 1919 برزت شخصية الأمير خالد كحلقة هامة في العمل الوطني في الجزائر، و إذا كانت مشاركته في الحرب العالمية الأولى تطوعاً منه، فإن مرد ذلك لم يكن بعيداً عن سياسة التجنيد الإجباري الذي سلط على الشباب الجزائري من جهة، و إلى سياسة فرنسا في تكوينها العسكري للأمير من جهة أخرى، و مع ذلك فإن نشاطات الأمير لم تكن بعيدة عن معاناة الجزائريين، و لا عن اهتمامات النخبة الجزائرية وحركة الجزائر الفتاة. ولذلك كانت سيرته محل شك من قبل الإدارة الفرنسية.
وأعفى من الخدمة العسكرية في نهاية 1915 وتحصل على التقاعد سنة 1919 ليتفرغ للحياة السياسية (20).
1-مشاركة الأمير في الانتخابات :
لقد عرف عن الأمير خالد جرأته في طرح القضايا السياسية و المطالبة بالمحقوق، و كان يعلم أن الأغلبية الساحقة من الشعب الجزائري يرفض التجنس و الاندماج عكس ما تطالب به النخبة الجزائرية المغربة، لذلك دعا الأمير إلى الاستفادة من الجنسية الفرنسية شريطة الإبقاء على الأحوال الشخصية الإسلامية، وبذلك كان يعرف كل الاتجاهات السياسية قبل الحرب و بعدها.
و من المؤكد أن حصول الأمير على التقاعد قد ساعده على الخوض في قضايا السياسة و التفرغ لها،و كشف عن توجهاته الوطنية النابعة من الذات الإسلامية و عارض توجهات النخبة المغربة بزعامة الدكتور ابن التهامي، و من ثم لاح في الأفق تياران تيار الأمير الإصلاحي المنتسب إلى جماعة النخبة المحافظة، و تيار ابن التهامي المنتسب إلى التوجه الليبرالي المفرنس الذي رضع من لبن فرنسا و تغذى من فتات موائدها.
و لذلك فلا غرابة أن نجد هذه الاتجاهات تنعكس على الحملة الانتخابية التي قادها كل طرف، و دخل الأمير معترك الانتخابات المحلية في ديسمبر 1919 و تمكن من الفوز على خصومه السياسيين من دعاة التجنس و الاندماج و التغريب، و كان الأمير خلال حملته الانتخابية يطلب من الجزائريين التصويت على قائمة المترشحين المسلمين غير المتجنسين، و كان يفصح عن أعداءه من أصحاب القبعات قائلا لهم:"إذا كنتم تريدون جنة الإسلام فعليكم بانتخابات نحن المسلمين لأننا مؤمنون" (21).
و الحق أن هذه الانتخابات المحلية تعد بداية تحول في تاريخ النخبة الجزائرية التي انشطرت إلى نخبة وطنية بزعامة الأمير خالد والحاج موسى، و نخبة اندماجية بزعامة ابن التهامي و ولد عيسى، و قد تحصلت النخبة الوطنية على 940 صوتاً في حين لم تتحصل النخبة الاندماجية إلا على 340 صوتاً (22). ويعد انتصار خالد في الانتخابات ضربة قاتلة لمشروع ابن التهامي الاندماجي من جهة ومن جهة أخرى دعما لأنصار الشخصية الإسلامية الجزائرية ، و لذلك أعتبر العديد من المؤرخين أن فوز خالد في الجزائر العاصمة هو فوزه على الجزائر كلها بحسب تعبير أجيرون خلال دراسة له حول أول انتخاب للأهالي المسلمين بالجزائر (23).
كما اعتبر الدكتور سعد الله أن هذه الانتخابات كانت فرصة ثمينة بالنسبة للجزائريين الذين جعلوا من الصندوق وسيلة هامة للتعبير عما يجيش في صدورهم رغم أن إصلاحات فبراير 1919 قد قيدت القسم الانتخابي للجزائريين ، ونفس الطرح تقريبا ذهب إليه المدعو و ورثام الذي سلط أضوائه حول هذه الانتخابات، وكشف عن قدرة الجزائريين في الاحتكام للصندوق بقوله:"إن الجزائريين قد برهنوا على أنهم مناورون شجعان في صناديق الانتخابات و أنهم متخصصون في فن الديماغوجية." (24)
ومما لاشك فيه أن قدرة الجزائريين على المناورة و اختيار أهم القوائم في هذه الانتخابات جاءت نتيجة لإسهامات الأمير خالد خلال حملته الانتخابية، التي استوحاها من المرجعية التاريخية وخصوصيات الشعب الجزائري، إذ كثيراً ما كان يذكرهم وقتها بكفاح جده الأمير عبد القادر ضد الغزاة، و كان يقول لهم لا تنسوا أن آباءكم قد هبوا للنضال لأول إشارة من جدكم الكريم للتصدي للاستعمار ومحاربته.
وإذا كانت صراحة الأمير خالد قد جلبت له الكثير من المتاعب من قبل دعاة الاندماج و الإدارة الفرنسية ، فإن النفس الطويل الذي كان يتمتع به خالد أهله من جديد لربح انتخابات 9جانفي 1921، و كان برنامجه السياسي و الاجتماعي مماثلاً لانتخابات 1919 الذي فاز بها في بداية عمله السياسي.
2- برنامجه الإصلاحي :
يبدو أن العمل السياسي الذي خاضه الأمير خالد بعد نهاية الحرب العالمية الأولى لم يكن وليد الصدفة,بل يعد تسلسل منطقي لرسالة الجهاد التي بادر بها الأمير عبد القادر منذ بداية الاحتلال، و قد أشار الأمير خالد إلى ذلك في العديد من المناسبات. و قد أبرز ذلك في جريدة الأقدام بقوله : " إن أجدادنا قد أضرموها حربا حامية الوطيس مدى 15سنة و أزيد، و لم يكن النصر حليفهم، و لكن تقدير بطولتهم و شجاعتهم و شهامتهم حق ثابت لا ينبغي أن ينكره المنتصرون علينا كما لا ينبغي لي أنا حفيد الأمير عبد القادر أن أسكت عنه مثلما فعل كثير من المنتخبين" (25)
كما أن بروز شخصية الأمير السياسية لم تكن بالظاهرة الغريبة على الساحة السياسية الوطنية وقتها ،بل سبقته إلى الحقل السياسي كتل النخبة سواء الاندماجية منها بقيادة الدكتور تامزالي أو المحافظة بزعامة كل من الشيخين المولود بن الموهوب و عبد الحليم بن سماية و لو أن هذه النخب قد اختفت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. و الظاهر أن ذلك الفراغ يعد من بين العوامل المحفزة التي ساعدت الأمير على الدخول إلى معترك السياسية. ويصبح المتحدث الرسمي باسم الحركة الوطنية الجزائرية، و زعيما لها ليس في الجزائر فقط بل في العالم الإسلامي أيضا (26).
وبذلك أصبح الأمير في نظر فرنسا من المدافعين على التعصب الديني ومن الدين يشكلون خطرا كبيرا على مصلحة فرنسا في الجزائر، بل و في العالم الخارجي أيضا.
كان الأمير خالد دوما يقف إلى جانب الجزائريين، و قد تألم لحالتهم التعسة تحت نير سياسة الاستعمار، و قد أشار إلى ذلك في الكثير من المناسبات، وكشف عن سياسة الاستغلال التي يعانيها الشعب الجزائري، الذي كان بمثابة العبيد لخدمة الكولون ، كما أوضح الأمير أن الإدارة الاستعمارية لا يهمها سوى سن القوانين الزجرية، و أن هناك تفاوتا طبقيا ملحوظا و قد أشار الأمير خالد إلى ذكر في جريدة الأقدام تحت عنوان"القانون الأهلي والتموين" بقوله :"لقد جددت الحكومة قانون القوات الزاجرة و النفي في برهة إحدى و عشرين ساعة بدون مباحثة ولا معارضة و لا استفهام .
إن سعر كيلو من الخبز يساوي فرنك ونصف، وكيلو من السميد فرنك وثمانين سنتيما. فالأجير الأهلي يربح من الثلاثة إلى الأربعة فرنك في جناء العنب، بعد أن يخدم اثني عشر ساعة في اليوم، وجملة من الخدامين لا يطلبون إلا الخبز الضروري لأولادهم).
ويواصل الأمير خالد في تبيان الحسرة والألم الذي أهاله نتيجة الضيم الاستعماري، والتسلط والقهر في غياب العدل والمساواة إلى أن يقول(فمن تجول نوعا ما في الدواخل يرى ما يفطح الكبد من زمرة التعساء، وصفر الوجوه نحلاء الأجسام، ومع هذا لا يعطوهم إلا القوانين الزاجرة) (27).
وحتى يتسنى للأمير إنجاح مهامه، و الرد على خصومه السياسيين أسس جريدة الإقدام سنة 1919، واستطاع من خلالها التعبير عن وجهات نظره، وبالخصوص بعدما انسحب من زمرة ابن التهامي وجماعته. وقد كتب محمد ناصر حول أهمية الجريدة في ذلك الوقت العصيب من عمر الحركة الوطنية بقوله
وراحت الإقدام تعرب عن اتجاهها الوطني الواضح رافضة التجنس رفضاً قاطعاً مطالبة بتمثيل الأهالي الجزائريين بالبرلمان الفرنسي ومقاومة نزعة الكولون العنصرية...
إلى أن يقول: من هنا فإن الإقدام تعد أول جريدة عربية تصدر في الجزائر تمثل هذه الروح الوطنية الخالصة ..) (28)
والحق أن الأمير قد اتضحت مطالبه السياسية ما بين1919-1922، ونادى ببرنامج إصلاحي قائم على فكرة المساواة وتمثيل الجزائريين في البرلمان الفرنسي وأخذ الجنسية الفرنسية دون التخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية، وكان برنامجه مستوحى من مرجعية الشعب الجزائري و مقوماته وأصالته الدينية، ولذلك فلا غرابة أن نجد الأمير يربط في عمله بين جانبي الدين والوطن، بل اعتبر أن صمود الجزائريين في وجه الاحتلال واستماتتهم في المقاومة مردها إلى المقوم الديني الذي ضمن بقاء الشخصية الإسلامية عبر العصور التاريخية، وبالخصوص منذ الاحتلال الصليبي للجزائر في صائفة 1830. ومن تم برز الأمير خالد لا كزعيم سياسي فقط، ولكن كمدافع غيور على الإسلام (29).
و الظاهرأن حماسة الأمير خالد السياسية وجرأته في طرح القضايا الوطنية مكنته من استمالة النخبة المعتدلة، وكذا رئاسته للوفادة التي قدمت في حدود 1919جملة من المطالب الوطنية إلى الرئيس الأمريكي ويلسون خلال انعقاد مؤتمر الصلح بباريس عقب إنهاء الحرب العالمية الأولى .
و حسب الرسالة التي تلقاها الأمير خالد و الممضاة من كاتب سر الرئيس عن طريق الملازم جورج ب نوبل، فإن مطالب الأمير قد أوصلت إلى صاحبها، إذ أشار إلى ذلك بقوله: "إنني أكتب إليكم لأعترف باستلامي العريضة المقدمة من قبل ممثلي عرب الجزائر الخمسة، و هذه العريضة التي أرسلت إلي من قبلكم بواسطة الملازم نوبل، إني سأكون سعيداً أن ألفت إليها نظر الرئيس" (30).
وكان الأمير جريئا في طرحه لقضية تقرير مصير الشعب الجزائري بنفسه، وتمكن من إيصال صوت الجزائر إلى مؤتمر الصلح، و طالب بأحقية الجزائريين في تمثيل أنفسهم. ولذلك اعتبر الكثير من الباحثين أن مساهمة الأمير تعد عملاً ثورياً دفع بالقضية الجزائرية باتجاه المطلب الاستقلالي (31).
كما أن مضمون المذكرة التي قدمها الأمير كانت جامعة و شاملة لقضايا جزائرية. إذ شرح الأمير من خلالها عدم شرعية الاحتلال وكشف عن الإجرام الفرنسي في حق الجزائريين العزل، برغم المقاومة الشعبية الشرفة، كما أوضح الأمير الوعود الفرنسية المزعومة وخرقها لمعاهدة 5 جويلية 1830، ومن تم وقف الأمير عند الأسباب الحقيقية للاحتلال و بين نتائجه الوخيمة على وضعية الجزائريين. وأنه حان الأوان للاعتراف بالمطالب المشروعة للجزائريين والاحتكام للشرعية الدولية.وحق تقرير المصير تحت وصاية عصبة الأمم، وأنهى الأمير عريضته بالإشادة بالمشاعر الولسونية (32).
وقد تعددت جوانب البرنامج الإصلاحي الذي دعا إليه الأمير، ولم يقف عند المطالب السياسية وفتح الأفاق أمام تمثيل الجزائريين بل دعا أيضاً إلى ضرورة الإصلاح الديني و الدفاع عن المؤسسات الإسلامية، ومن تم فقد عارض الأمير البدعة و الضلالة وحارب الشعوذة التي ألصقت بالعديد من الزوايا، وغيرتها من مجراها الإصلاح والديني والتربوي،وجد الأمير في العديد من شيوخ القرآن وزوايا الضلالة بعد أن أصبح هؤلاء يستغلون طيبة الجزائريين باسم الدين،وذلك يتناف وتعاليم الإسلام الحقيقي، وكشف الأمير خديعة هؤلاء على صفحات جريدة الأقدام بعنوان : "في الزوايا خبايا"، وأوضح من خلالها الدسائس التي ترصد لاصطياد على الزوايا من طرف القائمين عليها بعد أن تجرد هؤلاء الشيوخ من الصفة السمحة للإسلام وابتعدوا عن الدور التربوي و الأخلاقي، وأصبحوا هم الجهلة . وكانت دعوة الأمير صريحة إلى كل الجزائريين إلى ضرورة اليقظة و إسناد أمور الدين لأصحابها، حتى تتحقق الخدمة العامة لكل الجزائريين (33).
و كانت حركة الأمير دعوة جديدة للإصلاح الاجتماعي و التكفل بقضايا الشباب الجزائري، والدفع بهم إلى الأخذ بالعلوم وكسب المعارف، والتخلي عن الرذيلة والآفات الاجتماعية ، ومن تم دعا إلى محاربة مظاهر الانحلال الخلقي وترك التردد على الحانات و أوكار الفساد، والتشبه بالغربيين. لأن ذلك لا يعني التمدن الحقيقي، و قد أشار إلى ذلك بقوله: "أيها الأولاد و أيتها الشبيبة شمروا على ساعد الكد و الجد، و تزاحموا على أبواب المكاتب و المدارس و الكليات لتجنوا من ثمرات العلوم ما يرفع به قدومكم بكم مسلكاً حسنا، ويحي ذكركم و أعلموا أنكم خلقتم للعلم و العمل لا للجهل و الكسل، و لا تسارعوا لأبواب الحانات و محلات اللهو لأن ذلك يؤدي لما لا يرضي الله، و مخل للشرف و مذهب للعقل والحياء." (34)
و مما سبق ذكره نجد أن الأمير قد دعا إلى العودة إلى العلم و العمل و الأخذ بالحركة الثقافية كمعبر ضروري لتحقيق التقدم، و إخراج المجتمع الجزائري من كابوس الاستعمار، و بذلك تتحقق الشخصية الوطنية التي جعل منها الأمير الأرضية الصلبة لتحقيق كل مطمح جزائري، بل اعتبرها تكملة و امتدادا للشخصية العربية و الإسلامية و أن تحقق الجزء يبقى خدمة الكل شريطة صلة هذا الجزء بالكل، و يقصد به وحدة العالم العربي و الإسلامي و قد بين ذلك بقوله :" سادت العرب بالإسلام الذي كان الوسيلة العظمى لجمع كلمتهم و تعاضدهم و تعاونهم على البر و التقوى ، فمع قلة عددهم جالوا في الآفاق و نشروا العلوم و المعارف و التمدن الديني و الدنيوي، و ما نجحوا إلا لقوة إيمانهم و صدقهم و إخلاص نيتهم، و حماستهم و عدلهم و عفتهم، و حبهم الخير لجميع المخلوقات، و إنقاذ الأمم من ظلمات الجهل بنور الإسلام ." (35)
هكذا إذا راهن الأمير على عنصر الشباب و الثقافة لخدمة الحركة الوطنية الجزائرية، و طعم جهوده لإنجاح ذلك بتشجيع الفنون المختلفة كالمسرح و نحوه ليهز النفوس ويبعث فيها روح الأمل، و يعود أليه الفضل في ظهور الحركة المسرحية الجزائرية .
و قد أسس أول جمعية ثقافية مسرحية بمدينة المدية ، كما قام أيضا بإنشاء فرقة مسرحية بالعاصمة و أخرى بالبليدة (36).
و كان الأمير خالد من المتحمسين لزيارة الوفد المسرحي المصري للجزائر سنة 1921 بقيادة جورج أبيض وقدمت الفرقة للجمهور الجزائري مسرحيتين باللغة العربية عنوانهما شهامة العرب، و صلاح الدين الأيوبي وقد ساهم الأمير في تهيئة المناخ الملائم لإنجاح هذه التظاهرة الثقافية، و كان يقوم شخصياً بالدعاية لها طوال ثلاثة أيام قبل أن تقوم الفرقة السالفة الذكر بعرض ثالث عرض لها بالعاصمة تحت عنوان مجنون ليلى،وقد استطاع خالد أن يبيع سبعمائة تذكرة حضر أصحابها هذه الدراما الأخيرة (37).
و الحق أن جهود الأمير خالد قد أثمرت في سنواتها الأولى ، وأصبحت بادية للعيان،بعد أن ناصره الكثير من رجال الفكر و الثقافة، و باركوا جهوده الإصلاحية التي أدخلت تعبيرا جذريا في مطالب النخبة الجزائرية (38).
وكانت دعوة الأمير للتضامن الوطني جعلته يفكر في تعميق حركته إلى كل الشرائح الاجتماعية، وأسس في 23 جانفي 1922 جمعية الاخوة الجزائرية مع نخبة من المثقفين الجزائريين من بينهم القائد حمود، و زهير بن سماية، و يوسفي حميدة, و غيرهم ممن خدموا النخبة الوطنية مع بداية القرن. وقد أطلق سعد الله على هذه الجمعية بجمعية المؤاخاة الإسلامية (39).
ومن أهداف الجمعية أنها وجدت لخدمة القضايا السياسية والاجتماعية و الثقافية وحسب ما ذكره بن العقون فإن المراد منها هو تعبئة الجزائريين، و تكثيف الجهود و توضيح التضحيات الجسام التي بذلها الشباب الجزائري إلى جانب فرنسا فى الحرب العالمية الأولى، و كذا تحسيس الجزائريين بالقضايا السياسية، و المطالبة بإلغاء القوانين الفرنسية الجائرة مع إشراك الأهالي في التمثيل النيابي، و تطبيق المساواة بين الجزائريين و الفرنسيين بحسب ما نصت علية القوانين الفرنسية (40).
ومن تم فقط عزز الأمير جهود جمعية الأخوة بطموحات الجزائريين فبعد مضي شهريين فقط على ميلادها، بادر الأمير و صحبه بعقد تجمع هام في باب الواد بحضور الكثير من الأنصار و الفضول، ومن بين الشخصيات التي دعمت جمعية الأمير نذكر على سبيل المثال لا الحسر المحامي أحمد العيمش و الطبيب بن العربي و كانت لهما مواقف مشجعة لنشاط الأمير، و قد غطت جريدة الأقدام تجمع الأمير واعتبرته بمثابة عودة الأمل للجزائريين، وهو دعوة للاتحاد و التضامن وصف الصفوف وكتبت تحت عنوان "بارقة الأمل" بقولها :"ثم جاء دور الأمير فوعظ الناس و أطنب في شرح كلمة الاتحاد و ألقى على مسامعهم قصيدة حماسية إرشادية أثرت على أفكار الحاضرين و أبكت الكثير منهم ." (41)
وتابعت الجريدة تعليقها على الحدث، و اعتبرته دعوة جديدة ليقظة الجزائريين لاكتساب المعارف و الصنائع، ونبذ الأعمال المخلة بالحياء، وانتشال الشباب من أزقة السوء و الرذيلة، و الاعتماد على الذات و جمع الكلمة، و قد ألقى الأمير في الحفل قصيدة مؤثرة بعنوان "ذكرى للعاقلين و تنبيه للغافلين" و كشفت القصيدة عن شاعرية الأمير الجياشة و الحماسية، و مما جاء في بعض أبياتها قوله :
هذا التأخر دون الناس كلهم* أهل الجزائر ما هذا الخمود و ما
بين الورى في الملأ سربا من الغنم* استيقظوا من سبات كاد يجعلكم
على تقهقر أسمى سائر الأمم* علاكم الذل بعد العز و أسفي
وسارعوا لاكتساب العلم بالقلم(42)* سيروا على منهج الأسلاف واجتهدوا
وتذكر المصادر التاريخية أن سنة 1922 تعد سنة مجد للأمير, فبعد نجاحه في انتخابات 1919 و بروز خصومه السياسيين تألق نجمه في ربيع 1922 بعدما تمكنه من مقابلة رئيس الجمهورية الفرنسية الكسندر ميلران الذي زار الجزائر في ربيع 1922م، وكان اللقاء بمسجد سيدي عبد الرحمان بالعاصمة، وقد ألقى الأمير خطاباً هاما باسم جميع الجزائريين. وقد ذكر الأمير من جديد الرئيس الفرنسي بأن الجزائريين وقفوا إلى جانب فرنسا في محنها، وهم يطالبون في الحال، بالحريات المدنية من فرنسا و السماح لها بالارتقاء في المناصب، و أن يكون لهم تمثيل نيابي في المجلس الوطني الفرنسي، و قد ركز الأمير في مطالبه على فكرة التعويض، و أنها حق جزائري مشروع، و من تم اعتبر البعض أن مطالبه ربطت بين لغة الترهيب و الترغيب. و أن قلوب الجزائريين لا تزال بعد متجهة نحو فرنسا (43) .
و الظاهر أن مطالب الأمير كانت قريبة من لغة الصرامة و الوضوح، أكثر ما كانت مبنية على لغة الترجي و المهانة، ولعل ذلك ما كشف عليه الشيخ المولود الزريببي أحد رجال الإصلاح المعاصرين لحركة الأمير خالد، و بطلب من هذا الأخير لخص الزريببي مطالب الأمير المتمثلة في :" إعادة مجد أجدادنا ولو يقطع رقاب الجزائريين" (44).
وفي نفس السنة عزز الأمير من نشاطاته السياسية، وقام بالعديد من الجولات إلى خارج الجزائر العاصمة بغية كسب المزيد من الأنصار، وحل به الترحال إلى مدينة تلمسان و عقد تجمعاً شعبياً في قاعة الحفلات التابعة للبلدية، وكانت تدخلات الأمير بالعربية الفصحى، وركز خلالها على ضرورة إبطال الإجراءات التعسفية التي لا تزال مفروضة على الجزائريين، كما استنكر سياسة التجهيل و التهميش والإقصاء المفروضة على الأهالي ودعا الحضور للمطالبة بالحقوق السياسية و الاشتراك في السلطة . وقد لقيت أفكاره هذه رواجها في المنطقة، وقد دعا إليها مجدداً أحد رسل الأمير و المدعو أحمد بهلول الذي زار المنطقة في خريف 1922 (45).
وبمرور الزمن اكتسب نشاط الأمير المصداقية لدى الكثير من رجال الفكر، وانسبوا إلى حركته. و أبدوا عن استعدادهم اللامشروط لخدمة القضية الوطنية، ومن هؤلاء نذكر الشريف علي الطاهر الذي حضر اجتماع جمعية الأخوة في صائفة 1922 وألقى كلمة مؤثرة كشف فيها عن عيوب التعصب و التحجر، ودعا الجميع إلى الاعتصام بالإسلام، و نبذ الأفكار المتزمتة الرافضة للتحرر.و من بين المتدخلين أيضاً الحاج محمد بن رحال، والسيد رشيد ساطور وعمر الميزابي و يوسفي حميدة.
و كتبت الأقدام معلقة على المتدخلين في اللقاء بأنه بمثابة "المدرسة التي تبعث الأفكار الصافية النافعة و أنه دعوة للوحدة وضربة لدعاة الفتن و تقسيم الوطن" (46).
3- نفي الأمير و متابعة نشاطه خارج الجزائر :
مما لاشك فيه أن نشاطات الأمير المتعددة الجوانب قد جلبت حولها الكثير الأنظار الشبوهات ، فبقدر ما كسبت من الأنصار، و ممن يصغون إليها سواء من الجزائريين أو حتى من بعض الفرنسيين المعتدلين، أمثال فيكتور سبيلمان ، فإنها فتحت ضدها الكثير من الخصوم السياسيين و الإداريين. المتطرفين الذين رفضوا المطالب الجزائرية مهما كان نوعها.
و إذا كان الأمير خالد قد اعترضته صعوبات جمة في نشاطاته من طرف الإدارة الاستعمارية ، فإن ذلك ليس بالغريب عليه ولم يتعبه، بقدر ما أقلقته أطراف جزائرية لم تكن غريبة على حياته، وبالخصوص جماعة النخبة الليبرالية المتطرفة التي يقودها كل من بن التهامي، و وليد عيسى و بوضربة و محمد صوالح. وقد عارض هؤلاء برنامج الأمير الذي كشف خططهم الداعية لسياسة الاندماج والتجنس ورفض الحضارة العربية الإسلامية التي امتدت جذورها في عمق التاريخ الجزائري (47).
و يعد مؤتمر رؤساء البلديات الذي احتضنته العاصمة في 27 ماي 1920 بداية الضعف العلني في برنامج الأمير، بعد تواطىء جماعة بن التهامي مع حاكم ولاية الجزائر لوفيبور، وغلاة المعمرين. برغم أن التقارير الفرنسية تذكر عن الأمير أنه وقتها لا يزال يأمل في التعاون مع الفرنسيين، وحسب برقية الحاكم العام أوجان أبيل إلى وزارة الداخلية الفرنسية بتاريخ 18 ماي 1920، فإن اجتماع الأمير بوفادة عربية مشكلة من أنصاره خلصت إلى معارضة الخصوم السياسيين المتحالفين مع رؤساء البلديات, ولم تستهدف ضرب سياسة الولاية العامة المنتهجة (48).
وكان لتضييق الخناق على حركة الأمير من قبل الإدارة الفرنسية أثره الواضح على تقديم استقالته من عضوية المجالس المنتخبة في ربيع 1921 وكتب في ذلك رسالة إلى شيخ بلدية الجزائر العاصمة ذكره فيها بالدوافع الحقيقية لتخليه عن المسؤولية التي أوكلها له الشعب الجزائري بقوله:" ليس هناك سبب خاص يدفعني إلى التخلي عن النيابة التي منحتني إياها ثقة شعب الجزائري المسلم، وإني أردت بانسحابي من المجلسين أن أستعيد حريتي ." (49)
وحسب ما ذكره توفيق المدني الذي كان معاصراً الأحداث وقتئذٍ ، فإن المضايقة على الأمير كانت بتخطيط من الإدارة الفرنسية، و بتواطىء بين الحاكم العام "تيودور ستيق "و والي الجزائر العاصمة "لوفيبور " الذي كانت له دراية كبيرة بحيثيات نشاطات الأمير و وتعلقه بالشعب الجزائري (50).
ولعل الشيء الذي يدعم ذلك, التقرير الفرنسي الذي بعث به رئيس الملحق العسكري بالأغواط إلى القائد العسكري لمقاطعة غرداية وهو بدوره يبلغها إلى الحاكم العام يشعره فيها عن توزيع نشرة تحريضية صادرة عن جمعية الأخوة على سكان صحراء الجزائر، و نزولها عند رغبة أعيان المنطقة، و ذلك ما شكل خطراً على المصلحة الفرنسية (51).
واضطر الأمير إلى الانسحاب من الساحة السياسية في أفريل 1923 و أعلن أنه سيتوجه إلى سوريا، بعد ما عاش مضايقات السلطة الفرنسية و أعوانها من الجزائريين المتجنسين، و يذكر شارل روبير أجيرون أن الأمير كشف عن ذلك الجو المشحون بتوتر و قلق في رسالة بعث بها لأحد أصحابه في صائفة 1923 إذ يقول فيها:" أننا لا نستطيع أن نعيش في الجزائر حيث أن الحياة لا تطاق بالنسبة إلى، إنني انسحب إلى بلد أكثر هدوءاً ".(52)
و مهما يكن من أمر، فإن انسحاب الأمير من الحياة السياسية لم يكن برغبة منه، بل أرغمته الظروف على ذلك الفعل، و أن ذلك الإجراء حضرته الدوائر السياسية في باريس مع وزارة ريمون بوانكري و اشرف على تنفيذه سيق الحاكم العام في الجزائر(53) .
و يذكر سعد الله أن السلطات الفرنسية أصبحت قلقة من نشاطات خالد الوطنية، و من إصراره على التعويض. و قررت سنة 1923 نفيه من الجزائر بعد أن أوصت بصفة خاصة فيدرالية رؤساء البلديات و النواب التي اتهمت الأمير خالد بالقيام بنشاطات معادية لفرنسا بتنفيذ ذلك (54).
و بعد صعود هيريو إلى رئاسة الوزراء في 1924 و باعتباره من المحسوبين على اليسار، تفاؤل الكثير من الزعماء السياسيين و الإصلاحيين بتغير الأوضاع أمام مطالبهم، و منهم الأمير خالد الذي بعث برقية من منفاه في صائفة 1924 إلى رئيس وزراء فرنسا، و اعتبر توليته على رئاسة الوزراء عهدا جديدا لأهالي الجزائر يقودهم إلى طريق التحرر، و قد احتوت الرسالة على مطالب جامعة و شاملة عبرت عن برنامج الإصلاحي للأمير خالد و المتمثلة في النقاط التالية:
1- مساواة التمثيل النيابي في البرلمان الفرنسي بين الجزائريين و الأوروبيين القاطنين بالجزائر .
2- إلغاء القوانين و الإجراءات الاستثنائية الخاصة بالجزائريين في محاكم الجنايات و إبطال الرقابة الإدارية مع العودة إلى القوانين العامة دون قيد و لا شرط.
3- المساواة في الحقوق و الواجبات مع الفرنسيين بخصوص الخدمة العسكرية.
4- ارتقاء الجزائريين في المرتبة المدنية و العسكرية و الاعتماد في ذلك على عنصر الكفاءة و المقدرة الشخصية.
5- إجبارية التعليم على الجزائريين مع الاحتفاظ بحرية الاختيار في نوع التعليم.
6- حرية الصحافة و الاجتماع.
7- تطبيق فصل الدين على الدولة الفرنسية.
8- رفع القيود و الإجراءات على كل المساجين و العفو على المنفيين .
9- تطبيق القوانين الاجتماعية و العمالية على الجزائريين.
10- الحرية المطلقة للعمال الجزائريين في الذهاب إلى فرنسا (55).
وتذكر الكثير من المصادر التاريخية أن نفي الأمير خالد إلى خارج الجزائر جعلته أكثر راديكالية في طرحه للقضايا الوطنية ، بل أنه نقل المعركة إلى فرنسا نفسها، و أشرف برفقة مناصريه على التمكين من جميع عمال الشمال الأفريقي، في الكثير من اللقاءات التحسيسية و التوجيهية نحو التحرر والمطالبة بالحقوق المهنية و الاجتماعية وحتى السياسية.
وقد ارتسمت معالم العمل الوطني في فرنسا بهجرة الأمير خالد إليها منذ 1923 (56)، وفي جويلية 1924 عقد الأمير مؤتمرين في باريس تحت رعاية الاتحاد العالمي و هو منظمة يسارية كانت تؤيد القضية الجزائرية. و خلالها استطاع خالد من تكوين لجنة من الجزائريين المناصرين له منهم الحاج عبد القادر، و الحاج مصالي، وعبد العزيز منور و علي الحمامي و أحمد بهلول و بانون أكلي، وكلفت هذه اللجنة بمهام الإشراف على عمال المغرب العربي و تنظيمهم في شكل هيئة اتحادية المغاربة (57).
و في 7 ديسمبر من نفس السنة ترأس الأمير مؤتمر عمال شمال إفريقيا الذي ضم ممثلين عن خمسة و سبعين ألف عامل ، و خلال التجمع عبر المؤتمرون عن تضامنهم عن طريق برقيات التأييد لحركات المتحرر في كل من الجزائر، و المغرب الأقصى ، و مصر و تونس (58).
ولعل أهم نتيجة خلص إليها الأمير من خلال التجمعات العمالية التي عقدها في باريس هو الوصول بهم إلى تأسيس جمعية سياسية بعنوان "نجم الشمال الإفريقي" الذي أصبح رئيساً شرفياً لها. كما أصدر النجميون سنة 1927 جريدتين باسم الإقدام الباريسي. والإقدام الشمال الإفريقي و هي امتداد لجريدة الإقدام التي عطلتها فرنسا في الجزائر سنة 1923 (59).
ومما سبق ذكره نخلص إلى القول، أن الأمير خالد قد أفلح في مسعاه بباريس و حقق ما لم يتحقق له في الجزائر، و أوجد المناخ الملائم لميلاد حركة سياسية جزائرية ثورية سوف يكتب لها النجاح في الدفع بالقضية الوطنية نحو الأمام، لكن المنون خطف خالد في سنة 1936 بدمشق، و قد ترك ذلك الأثر البليغ على الجزائريين ، وجعلوا يوم حداد بمناسبة الذكرى الأربعينية على وفاته، وأقاموا له الصلاة في المساجد و المقابر و كتبت جريدة الدفاع وقتها تذكر بخصال الرجل الوطنية و الدينية بقولها:"وهب خالد للجزائر كل حياته ونشاطه وذكائه، وللإسلام كل عواطفه وقلبه."(60)
أما جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي اعتبرت نشاطاتها بمثابة امتداد طبيعي لحركة الأمير خالد ، فقد رزيت هي الأخرى عند سماعها بوفاة الأمير، و ذكرت بخصاله الحميدة وكتبت مجلة الشهاب مذكرة بوطنية الأمير، و صدقه في العمل بقولها :"إن الأمير خالد رجل قومي يعتز بقوميته، و مسلم يحمل غيرة صادقة على دينه ... كان صلب الرأي قوي الإيمان، صريح القول. دافع عن وطنه حتى فارقه، و ذهب ضحية عقيدته، و جهاده ودفاعه." (61)
وظاهر أن حركة الأمير ظلت سارية المفعول لدى أنصاره في الجزائر. لا في فترة الاستعمار فحسب، و لكن حتى بعد الاستقلال، و قد تجسد ذكره في شهادة أحد الذين عرفوه و عاشروه، و قد أدلى بها بعد الاستقلال احدهم قائلاً، أن الأمير قال له ذات يوم لن اعرف الراحة و الطمأنينة إلا يوم تصبح الجزائر فيه حرة مستقلة، إذا توفيت قبل ذلك فاستمروا أنتم في كفاحكم و سأكون في قبري مطمئناً لذلك، إن تحرير الجزائر العزيزة هو تحرير شعبنا نهائياً من الاضطهاد و التعسف، و إني لموقن بأننا سننتصر بإذن الله.(62)
الخلاصة :
مما سبق ذكره نخلص إلى القول أن حركة الأمير خالد تعد، لبنة هامة في بناء المسرح السياسي للجزائر المعاصرة ، و كانت مطالبة جامعة و شاملة ربطت بين البعد التربوي و الإصلاحي و الاجتماعي و السياسي في قالب ثوري، خاطبت العقول و أذكت الأحاسيس ونمت الشعور، وكونت الوئام لدى الجزائريين. الذين أصبحوا يفكرون بكل جدية في مطالبهم المختلفة انطلاقاً من مبدأ المساواة مع المعمرين، لما قدموه من دعم مادي و معنوي لفرنسا في أحلك محنها .
لكن تواطىء دعاة التجنس و الإدماج مع الإدارة الاستعمارية و غلاة المعمرين أجبروا الأمير على مغادرة الجزائر، بعد أن اتهموه بالتعصب و التطرف السياسي . لكن قضايا الجزائر ظلت عالقة في اهتمامات الأمير و هو في المنفى. و نقل المعركة إلى فرنسا و شرح تفاصيلها بين الطبقة العمالية المهاجرة لأقطار المغرب العربي، و بذلك حقق الأمير أمنيته و مهد لتأسيس نجم شمال إفريقيا الذي ولد في باريس 1926 و اصبح الأمير رئيساً شرفياً له. و بذلك يعد من الرواد الأوائل الذين ارسوا معالم جديدة في منظومة القيم السياسية في تاريخ الجزائر المعاصر.