وجهات نظر حول مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي
اقتصاد السوق
الاجتماعي واتجاهات تطوره المستقبلية
د. عدنان سليمان
إيضاحات
مفاهيمية
قد لا يغيّر
كثيراً في الأمر، أن الاختلافات، بين معظم الدول التي سلكت اقتصاد السوق، تظل
قائمة، وهي ليست بقليلة فيما بينها، الأمر الذي يمكن ملاحظته بسهولة، مما يقدم
الدليل، أن اقتصاد السوق، وكما تقدمه كتب الاقتصاد، ليس له وجود في الواقع العملي،
ولا يمكن تحقيقه. فدائماً يمكن الاستدلال على اقتصاد السوق في تجلياته المحددة، من
خلال جملة العوامل الخاصة بكل بلد: التاريخية، الثقافية، السياسية، إضافة إلى
السياق النظري لاقتصاد السوق ذاته.
يظهر مفهوم
اقتصاد السوق الاجتماعي، في ألمانيا كما في خارجها، كمرادف للتطور المحدد الذي صبغ
الاقتصاد الألماني بعد الحرب العالمية الثانية.
فمن وجهة النظر
الألمانية، يأتي هذا الاقتصاد، كدلالة على فعالية وأداء النظام الاقتصادي، لكن في
اللغة الدارجة والأدبيات، يقدم اقتصاد السوق الاجتماعي نفسه غالباً، كمثال أو رؤية
للنظام وتصوره، أو كبرنامج سياسي، ولذلك يعد من الملائم، استعراض السياق أو الإطار
الذي تتحدد من خلاله، اهمية وقيمة جميع هذه المفاهيم.
يعود اقتصاد السوق
الاجتماعي في سياقه المفهومي إلى الليبرالية (كفكرة نظام)، إذ انبثقت من
«الليبرالية» نظم ونماذج اقتصادية وسياسية متعددة، خصوصاً، الليبرالية الكلاسيكية،
والليبرالية الحديثة (المنظّمة). وتختلف الليبرالية المنظمة عن الليبرالية
الكلاسيكية، من خلال نموذج (الاقتصاد الحر) لعلاقة الدولة بالحياة الاقتصادية، حيث
يرفض أنصار الليبرالية المنظمة اقتصاد «دعه يعمل، دعه يمر»، ودور الدولة الراعية
للأمن فقط، فالدولة تناط بها مهمة تحقيق الإطار والمناخ، الذي يسمح بإطلاق الحياة
الاقتصادية، وضمان المنافسة.
كذلك يمكن تلمّس
عناصر أساسية لليبرالية المنظّمة في اقتصاد السوق الاجتماعي، ولكن مع احتفاظ
اقتصاد السوق الاجتماعي بشكله الخاص، حيث يكتسب البعد الاجتماعي أهميته الخاصة،
هنا وتحديداً في صياغة مبادىء الوفاق والوحدة الاجتماعية، لكن البعد «الاجتماعي»
بالنسبة لأنصار الليبرالية المنظّمة غير مهم وحده، وذلك لأن اقتصاد السوق، هو
اجتماعي بطبيعة الحال في سياق نظام المنافسة، كما هو اقتصادي.
وبالقدر الذي
تحّول فيه مشروع أو نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي، إلى البرنامج السياسي
والاقتصادي لجميع الأحزاب في ألمانيا، كان ذلك يعود إلى توجه اقتصاد السوق
الاجتماعي، عبر البعد الاجتماعي للنظام الاقتصادي، مما جعله يلتقي مع الجانب
الاجتماعي في نظام الاشتراكية، حيث تحتل المرتبة الأولى مبادىء مثل (العدالة
والمساواة وتكافؤ الفرص)، والفرق بين البرنامج والتصور، يكمن في أن البرنامج
السياسي يدعم عملانية البرنامج ذاته. (.....)
الأسس النظرية
يأتي اقتصاد
السوق الاجتماعي كما قدمه الفريد مولر - ارماك «ArmacK ALFred -Muller » ولودفيغ إيرهارد
Ludwig-Erhard وقد
تم صياغته في تحليلات نظرية على يد «مدرسة فرايبوك»، ومصطلح «فرايبوك» يشكل مدرسة
لمجموعة اقتصاد ألمان في الأربعينات (....)، الذين صبوا جملة أفكارهم في تصورهم عن
إجمالي النظام والقانون. فالليبرالية المنظّمة التي انبثقت عن هذه المدرسة، تعني
أن مختلف مجالات الحياة الفردية ، لا توجد منعزلة عن بعضها، لا يمكن صياغتها وفق
مبادىء وقواعد متناقضة، لأن تشابك وتداخل النظام العام، يفترض التنسيق بين مختلف
أجزائه وعناصره المكونة له، والتي يمكن أن تعمل عملها، فيما إذا تم صياغة مجمل
مبادىء وقواعد هذا النظام، بشكلها المتكامل مع بعضها البعض.
هذه الوحدة
المتكاملة ، لقواعد ومبادىء النظام الاجتماعي، يجب أن تعكس معايير الليبرالية
السياسية، إنها حرية الفرد، التي يجب أن تصان في جميع مجالات الوجود الإنساني في
ظل شروط الندرة الاقتصادية الطبيعية، واختلاف المصالح الداخلية الموجودة في كل
مجتمع.
إن اقتصاد السوق
الاجتماعي ينطلق من هنا، من هذا التداخل والاندماج بين مختلف مجالات الحياة وأجزاء
النظام العام، حيث يمكن فهمه في صورة وحدة المبادىء وشموليتها، والتي تتحقق فقط من
خلال نظام المنافسة الاقتصادي، وما يترتب على ذلك ، من التكامل والتنسيق بين مختلف
المجالات كوحدة متكاملة.
واقتصاد السوق
الاجتماعي، هو محاولة بناء «تركيب» «طريق ثالث» بين الليبرالية والاشتراكية، والذي
يتميز بإعادة تشكيل العلاقة بين المنافسة والتضامن، «بين اقتصاد السوق والعدالة
الاجتماعية»، كما، يمكن أن يعرَّف كفكرة لنظام سياسي يهدف إلى تأكيد تحققه من خلال
ربط المبادرة الفردية الحرة بالتقدم الاجتماعي، ومن خلال أداء اقتصاد السوق العام،
وعلى قاعدة وأساس اقتصاد المنافسة.
(.....)
وهكذا راحت
قضايا أساسية مثل الحرية الشخصية، الفعالية الاقتصادية، العدالة الاجتماعية، وضمان
الظروف المادية الأساسية والطبيعية للإنسان، تشكل الحقل الخصب أو مجال الممارسة
السياسية لهذا الاقتصاد. بحيث يشكل نظام المنافسة المرتكز الأساسي لاقتصاد السوق
الاجتماعي ، الذي يعمل ، عندما تتحقق مبادىء بناءة ومنتظمة من خلال السياسة
الاقتصادية. وأهم المبادىء الأساسية لاقتصاد السوق الاجتماعي، واستناداً «لفالتر
ايكون» الممثل
الرئيسي لليبرالية المنظمة:
- بناء نظام
أسعار فعال للسلع والخدمات وأسواق المال.
-سياسة نقدية
تتأسس على استقرار قيمة النقد.
-ضمان حرية
التعامل والنفاذ إلى الأسواق.
- حرية تملك
وسائل الانتاج.
- مبدأ الالتزام
والمسؤولية المتكاملة لمالكي وسائل الإنتاج عن ملكيتهم.
- حرية التعاقد.
- ثبات واستقرار
السياسة الاقتصادية.
نتائج تلقائية
انطلاقاً من هذه
المبادىء التأسيسية، تشتق مبادىء ناظمة، وقواعد تحدد السياسة الاقتصادية، وتعمل
بموجبها، حيث يمكن الاستنتاج هنا، أن عناصر النظام ، يمكن أن تقوم من خلال
المجابهة مع الواقع في تغييره المستمر، وبالتالي يمكن للمنافسة أن تسفر تلقائياً،
عن نتائج إيجابية للسوق، واستبعاد تلك النتائج غير المرغوبة، على المستوى السياسي
والاجتماعي، وهنا تأتي أهمية:
- المراقبة
المستمرة للاحتكارات.
- السياسة
البناءة للدخل لإعادة توزيعه وتصحيح اختلالاته تلقائياً عبر السوق.
- المحاسبة
الاقتصادية وفقاً لمبدأ الأسباب.
إضافة إلى كل
ذلك ، يأتي التأكيد على ضرورة انسجام السياسة الاقتصادية، وقيامها على نظام منافسة
فعال وبناء، حيث التركيز على العوامل الاجتماعية في سياق العيش الاجتماعي المشترك،
والتي تشكل نقطة أساسية لمشروع اقتصاد السوق الاجتماعي.
تعتبر المنافسة
على الأداء الفعال، كأساس أو مرتكز اقتصادي للتقدم والأمان الاجتماعي.
وهي موضع تشجيع
وحماية، وتعد مبدئياً كمنظم لإعادة توزيع الدخول، فالدولة هنا، مطالبة بالبرهان
على وظيفتها، في تبني سياسة اجتماعية شاملة، وذلك لأجل تضييق فجوة التفاوت
الاجتماعية وتخفيضها، تدريجياً، فأولئك الذين لا يستطيعون المشاركة في المنافسة
على الإنتاج والأداء، وبالتالي لا يستطيعون الحصول على دخل من السوق، فهؤلاء لا
يتوجب ضمان وجودهم الاجتماعي فقط، بل مشاركتهم في التقدم الاقتصادي للمجتمع وإضافة
لكل ذلك ، يأتي في صلب مهام الدولة، تبني سياسة فاعلة على مستوى دعم الصناعة،
وتطوير التقانة، والبنية التحتية للاقتصاد والمجتمع.
**اقتصاد السوق
الاجتماعي تعريفاً
حميدي العبد
الله
اقتصاد السوق
الاجتماعي ليس بدعة جديدة، بل هو مفهوم قديم أبصر النور في جمهورية المانيا
الاتحادية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.
وبهدف هذا
النموذج كما يقول المؤلف الاقتصادي اللبناني المعروف إيلي الشماس إلى التوفيق بين
الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، ولهذا فهو يرتكز على ثلاثة أسس هامة:
الأساس الأول:
المنافسة أي ضرب الاحتكار من أي مصدر كان، لأن الاحتكار دائماً يؤدي إلى الركود ويعطل
امكانية استخدام كل الطاقات الكامنة.
الأساس الثاني:
خلق نوع من تكافؤ الفرص بين الهيئات والفعاليات الاقتصادية المختلفة والحد من
القدرة ليس فقط على الاحتكار، بل وأيضاً الحد من سيطرة أقليات على مقاليد الأمور
الاقتصادية.
الأساس
الثالث:تدخل الدولة عندما تعجز آليات السوق عن تأدية دورها.
ويقول شماس: إن
هذا الأنموذج أظهر في التجربة أنه قادر على أن يلبي بنجاح متطلبات مجموعة «تعيش
تحولات اقتصادية عميقة وتواجه مطالب اجتماعية شتى».
ومفهوم السوق
الاجتماعي يمكن اختصاره بتدخل الدولة لتوجيه بعض الانفاق والاستثمار لتلبية
الاحتياجات الاجتماعية، وهذه اهداف لا تكترث بها آليات السوق عندما يترك لها الحبل
على الغارب، وبهذا المعنى فإن اقتصاد السوق الاجتماعي له تطبيقات عديدة، فهو يأخذ
شكلاً محدداً في اليابان لايختلف جوهرياً في مضمونه عما طبق في ألمانيا الاتحادية،
ويسمى اليوم في الصين اقتصاد السوق الاشتراكي، وأطلق عليه في الكثير من الدول
الأوروبية تسمية أخرى «الاقتصاد الاجتماعي للسوق».
وتتباين عادة
التطبيقات التفصيلية لاقتصاد السوق الاجتماعي، ففي اليابان جرى التركيز على التزام
الشركات الخاصة تثبيت العاملين والمستخدمين فيها مدى الحياة، وفي ألمانيا اتخذ
شكلاً آخر لتدخل الدولة حيث رعى التوجه من قبل الشركات الخاصة لتبني «الإدارة
المشتركة، أو المسؤولية المشتركة»، وتأمين تفاهم
أرباب العمل مع النقابات بشأن سياسة الأجور، وبرهنت التجارب على أن هذه الصيغة
«ملائمة للمنافسة» كما أنها أولت التدريب المهني أهمية خاصة لأنه يخدم مصالحها
ومتطلباتها بالدرجة الأولى.
ويقول ميشال
البير في كتابه (تناطح الرأسمالية): إن «اقتصاد السوق الاجتماعي يتميز بمبدأين
أساسيين»:
المبدأ الأول:
ضرورة أن تستند دينامية الاقتصاد إلى السوق، حيث يضمن لها أكبر قدر من الحرية في
الأداء الوظيفي، ما يؤدي بالدرجة الأولى إلى تحرير الأسعار والأجور.
المبدأ الثاني،
أن الأداء الوظيفي للسوق لايمكنه وحده أن يحكم مجمل الحياة الاجتماعية، بل يجب أن
يتحلى بالتوازن، وأن تقابله في كفة الميزان الثانية مقتضيات اجتماعية مطروحة بصورة
مسبقة تكون الدولة بمثابة ضامن لها، وبناء عليه فالدولة هي من حيث تعريفها بمثابة
دولة اجتماعية ويقوم السوق الاجتماعي على مجموعة من المسلمات:
المسلمة الأولى:
«دولة الخير العام» أي تحويل الدولة إلى دولة اجتماعية تكون بمثابة حارس الحماية
الاجتماعية والتفاوض الحر مع الشركاء الاجتماعيين الآخرين.
المسلمة الثانية
مشاركة الإجراء في حياة المشروع والمؤسسة، وضرورة وجود تشريعات تكرس وتفعل
المشاركة في القرار والإدارة.
المسلمة
الثالثة: جعل الإدارة النقدية ركيزة قائمة بذاتها لضمان الاستقرار.
المسلمة
الرابعة: رفض أي تدخل وتوجيه اقتصادي من قبل الدولة في حال ترتب على هذا التوجيه
تشويه وتعطيل للمنافسة وعدم احترام تكافؤ الفرص وتساوي ظروف المنافسة أمام
المشروعات.
اقتصاد السوق
الاجتماعي وفقاً لهذا التعريف جرى التعبير عنه في أربعة نماذج أساسية:
1. النموذج
الياباني،
2. النموذج
الألماني،
3. ونموذج الدول
الاسكندنافية، وخصوصاً السويد،
4. وأخيراً
النموذج الصيني الذي سمي باقتصاد السوق الاشتراكي.
وحققت النماذج
الأربعة نجاحات باهرة. ولكن في الفترة التي اعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي تعرض
هذا النموذج وتحديداً دور الدولة لهجوم عنيف، ولكن ماأسفرت عنه تجربة تطبيق
النموذج النيوليبرالي من عواقب كارثية اعادت الاعتبار لاقتصاد السوق الاجتماعي مرة
اخرى.
وهكذا توصل
جوزيف ستيغليتز بعد مضي عقد كامل على تطبيق السياسات النيوليبرالية ومن موقع
الخبير المتابع الى ان «بامكان الحكومات ومن واجبها ان تعتمد توجهات تساعد بلدانها
على النماء كما تؤمن ايضاً تقاسماً اكثر عدلاً لثمار النمو» ويدعو الى «وضع سياسة
وفلسفة اقتصاديين تعتبران الدولة والأسواق في حالة تكامل، حال مشاركة، وتسلمان
بأنه اذا كانت الاسواق في قلب الاقتصاد فالدولة ايضاً لها دور يجب ان تؤديه» واكثر
من ذلك فإن ستيغليتز يعترف بأن «معظم البلدان الصناعية المتقدمة، ومنها الولايات
المتحدة واليابان، قد بنت اقتصادها في ظل حماية حصيفة وانتقائية لبعض فروعه حتى
بلغت مستوى ما من القوة كي تنافس المواجهة الخارجية» ولا تزال على اي حال تقوم
بذلك، وفي اطار اقتصاد السوق الاجتماعي يتوجب على الدول ان تضطلع بهذه المهمة
ايضاً، ويذهب ستيغليتز الى ابعد من ذلك فيقول: «الأسواق لم تكن تتطور بصورة
تلقائية، بل ان الدولة قامت بدور حيوي في توجيه تطور الاقتصاد، وقد اكتسبت
الولايات المتحدة حرية عمل واسعة في الحقل الاقتصادي فحددت قواعد النظام المالي،
واتخذت قرارات بشأن الحد الادنى للأجور وشروط العمل وصولاً الى وضع نظم لتعويض
البطالة والتقدمات الاجتماعية لأجل مواجهة المشكلات التي يحدثها نظام السوق».
اذاً اقتصاد
السوق الاجتماعي هو اساس «رؤية متوازنة لدور الدولة: رؤية تعترف بحدود السوق
واخفاقاتها، وحدود واخفاقات الدولة، لكنها تعتبرهما شريكين يجب عليهما ان يتعاونا،
اما طبيعة هذا التعاون فتختلف حسب البلدان تبعاً لمستوى تطور كل منها على الصعيدين
السياسي والاقتصادي لماذا؟ لأن ليس هناك أنموذج واحد للسوق كما يقول ستيغليتز اذ هناك
فوارق قوية بين الصيغة اليابانية لاقتصاد السوق والألمانية