مقال بقلم: سلمان خان
باحث اقتصادي- مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية-إنجلترا
الفقر مفهوم مراوغ، فربما كان هناك فقراء بقدر ما توجد دلالات متعددة للكلمة وبقدر عدد البشر وتوقعاتهم، فلغات العالم تتنافس مع بعضها البعض في عدد الكلمات التي تشير إلى ظروف الفرد المرتبطة بالمدركات المختلفة للفقر.. فمثلاً: في الفارسية ثمة ما يزيد على 30 كلمة تصف أولئك الذين يُعتبرون لسبب أو لآخر فقراء.. وفي معظم لغات إفريقيا ثمة -على الأقل- من 3 إلى 5 كلمات لتعريف الفقر وهكذا.
من الفقير؟!
واقعيًا، ليس ثمة تعريف موحد للفقر في كل الثقافات؛ بل قد لا تعتبر كل الثقافات الفقر عيبًا، فالفقر لم يكن ولفترة طويلة من الزمان وفي العديد من حضارات العالم نقيض الغنى، وكان ثمة دائمًا مجال “الفقر الاختياري” أي أولئك البشر الذين رفضوا الزخرف والمظهر وانطلقوا يسبحون في ملكوت الله، وكان احترام أولئك الفقراء باختيارهم (المتصوفة على سبيل المثال) من تقاليد الشرق المستقرة.
وحديثًا -مع اتساع الاقتصاد التجاري وعملية التمدين- اكتسب الفقر دلالته الاقتصادية، وأصبح الفقير هو من ينقصه المال والممتلكات التي يحوزها الغني، ويتحول الفقر إلى معنى مطلق وليس نسبيًا، فيصير الفقر عيبًا وبعدئذ يصير مرضًا يذل من يصاب به ويجب علاجه.
إن الفقير في المجتمعات البشرية قبل سيطرة الاقتصاد هو ذلك العضو الذي يكسب قوت يومه بصعوبة أو الذي اختار الكفاف، بيد أنه يظل عضوًا في الجماعة، لكنه لاحقًا أصبح ذلك الغريب المتشرد الذي يتم عزله وتهميشه في الواقع المعاش.
وطبقًا لأدبيات التنمية فإن الفقر صفة لمجتمع ما الفرد فيه لا يحقق مستوى معين من الرفاهية- والذي عادة ما يُشار إليه بخط الفقر أو حد الكفاف، ويجب لتعريف الفقر الإجابة على ثلاثة تساؤلات؛ تحديد ماهية الحد الأدنى من الرفاهية، وكيفية التيقن من صحة فقر الفرد، وتجميع مؤشرات الرفاهية وقياس الفقر على أساسها.
وتقترب فكرة الرفاهية Well-being من مفهوم مستوي المعيشة Standard of Living (SOL)، الذي يعد أحد المفاهيم الشائعة في أدبيات التنمية، ومحور أعمال البنك الدولي في تقاريره السنوية عن التنمية خلال فترة التسعينيات.
ويستهدف مفهوم مستوى المعيشة قياس كفاءة الحياة؛ معتمدًا على معايير الاستهلاك الفردي من السلع والخدمات المشتراة من دخل الفرد أو توفيره، ويفترض مفهوم الفقر وجود حد أدنى من الاستهلاك والدخل يقاس عليه مستوى معيشة الفرد، ويشار إليه بخط الفقر، حيث يصنف أي فرد يقع دخله أو استهلاكه أقل من هذا الحد باعتباره فقيرًا.
ويمكن تصنيف مناهج قياس الفقر إلى اتجاهين:
الاتجاه الأول: اتجاه الرفاهية ويستخدم أصحاب هذا الاتجاه معايير مالية في قياس الرفاهية مثل: دخل الفرد وإنفاقه الاستهلاكي، وهو الاتجاه السائد في أدبيات الفقر.
الاتجاه الثاني: اتجاه الـ “لا رفاهية” non-welfarist ويعني هذا الاتجاه بدراسة المؤشرات الاجتماعية للرفاهية، مثل: التغذية والصحة والتعليم، ويركز على قضايا مثل: سوء التغذية، أو غياب الرعاية الصحية، أو الأمية، باعتبارها نتائج مباشرة لانتشار الفقر.
ومن جانب آخر، انقسمت الاجتهادات حول تعريف الفقير إلى مدرستين:
-المدرسة المطلقة: وهي تضع حدًا أدنى لمستوى الدخل الضروري الذي يجب على كل فرد إحرازه لتحقيق مستوى معيشي معقول-حد الفقر، ويصنف مَن دونه باعتباره فقيرًا، وتحديد هذا المستوى هو حكم تقديري للباحث أو صانع السياسة.
-المدرسة النسبية: وهي تتعامل مع الفقر النسبي-أي ارتباط خط الفقر بمعدل توزيع الدخل بين السكان-وعادة يتم ذلك بتعريف الأفراد الذين يشكلون أفقر 20-25% من سكان مجتمع ما باعتبارهم الفقراء، وبعض الدراسات في الدول النامية ترفع هذه النسبة حتى 50% من السكان.
وعلى صعيد آخر، فإنه رغم بقاء الدخل الفردي المؤشر الأكثر انتشارًا لقياس الفقر، فقد تزايدت أهمية مؤشرات الرفاهية الاجتماعية، مثل الصحة والتعليم، وقد تزايد هذا الاتجاه في دول العالم النامي منذ منتصف السبعينيات حيث لوحظ ارتفاع الدخل الفردي في بعض الدول، دون حدوث تقدم في بعض مجالات الرفاهية الاجتماعية مثل: التغذية والصحة، وهذا يعني بشكل عام إمكانية حدوث مفارقة بين حدوث زيادة في دخل الفرد وتحقيق إنجاز في مجالات الرفاهية الاجتماعية.. على سبيل المثال، لا يتفق معدل نمو الدخل الفردي المتزايد في باكستان مع مؤشرات الرفاهة الاجتماعية المتدنية بها، بينما يأتي النموذج السريلانكي في الاتجاه المضاد، حيث يتاح لمواطنيها رفاهة اجتماعية لا تتناسب مع معدلات الدخل الفردي المتواضعة بها.
الفقر…واقع أم أسطورة:
يحدد بعض الباحثين ثلاثة أبعاد لمفهوم الفقر:
-البعد الأول: هو الماديات فهي تلك الأشياء التي نعتبر نقصها فقرًا، وهذا النقص أو الحرمان أو الفقدان له طابعان إما وجودي غير مادي أو وجودي مادي.
تنتمي للفقر الوجودي غير المادي عناصر مثل: الإخفاق في العمل أو انعدام الثقة في النفس أو نقص الحب، بينما يشمل الفقر المادي: التفرقة، وعدم المساواة والتحيز والجهل وتعذر الحصول على الحد الأدنى من الضروريات المطلوبة للحياة-كما تحددها ثقافة المرء- والجوع وسوء التغذية والتشرد وضعف الصحة… إلخ.
-البعد الثاني: هو إدراك المرء لحالته، فالمرء يعد فقيرًا فقط عندما يحس بوجود النقص في إحدى تلك الماديات أو كلها، إن تلك الماديات لا تكتسب قيمها كبعد معرفي في المفهوم إلا مع إدراك الطابع النسبي والذاتي لمفهوم الفقر، عادة يدفع هذا البعد الذاتي الفقير إلى تخطي فقره، وتغيير موازين القوى التي أدت إليه، وقد ينزع إلى عقد روابط تبعية مع جماعات أو أفراد أو عقائد أقوى تعطيه إحساسًا زائفًا بالأمان، وأحيانًا يصل إلى وهم القوة.
-البعد الثالث: كيف يرى الآخرون الفقير، حيث قد يختلف إدراك الفقير لحاله مع رؤية الآخرين، ويترتب على هذا الإدراك رد فعل الآخر تجاه الفقير، وثمة نوعان من أنواع رد الفعل تجاه الفقير؛ التدخل المباشر أو غير المباشر من خلال الصدقة أو المساعدة أو التربية أو القهر، أو عدم التدخل-سواء كان عدم التدخل مبررًا لأن الفقراء يستحقون فقرهم أو لأن التدخل لن يفيد بل وربما أضر.
وتتأثر تلك الأبعاد الثلاثة بالمكان والزمان والبيئة الاجتماعية / الثقافية المتواجدة فيها.
الفقر ووهم عالمية التنمية:
لأول مرة في التاريخ، صار الفقر ظاهرة مطلقة، حيث اعتبرت بلاد وأمم بأسرها فقيرة على أساس أن دخلها الإجمالي أقل بالمقارنة مع الدخل السائد في تلك الدول التي تسيطر على الاقتصاد العالمي، وهكذا أصبح الدخل القومي هو المعيار العالمي الجديد والرأسمالية الاقتصادية هي الحل المعلن للعلاج النهائي للفقر، وتوصلت جيوش من خبراء الفقر العالمي إلى العلاج بالتنمية من خلال زيادة الإنتاج والتطبيق المتزايد للعلم والمعرفة التقنية، فهي مفتاح الرخاء والسعادة.
وهكذا أُعيد تفسير وتقييم البعد المادي للفقر، حيث أدى تحطيم المجتمعات التقليدية، في سبيل ما يدعى بالاقتصاد القومي ثم الاقتصاد العالمي، إلى فصل الاقتصاد عن جذوره الاجتماعية والحضارية، وبالتالي خضع المجتمع لآليات وقواعد الاقتصاد وليس العكس. وقد خلق الاقتصاد العالمي منظومة من المرجعيات الكونية جعلت الفرد يدرك أنه فقير وفي حاجة إلى المساعدة لأن متوسط دخله أقل من المستوى العالمي المعياري، ولأنه لا يعيش في رفاهية مثل بشر آخرين.
وأدى هذا التغيير في نظرة المرء لذاته إلى تغير في ردود الفعل تجاه الفقر، حيث أصبح البرنامج الجديد حلاً كونيًا أحادي الاتجاه يعتمد على الدخل ولا علاقة له إطلاقًا بالثقافة ولا بالشخص، ولم يعد الفرد يلجأ إلى جذوره الثقافية وعلاقته الأسرية القديمة التي كانت تقدم الحلول البديلة الكلية للفقر، وبدلاً من ذلك سعى الأفراد إلى تجميع أنفسهم في مؤسسات متماثلة مثل النقابات والروابط، مما أدى إلى تنميط الأفراد في المجتمع وإلغاء أي تفكير بديل يسعى إلى البحث عن طريق جديد للحياة والتنظيم الاجتماعي يعتمد على البساطة، أو أشكال تطوعية وأخلاقية من الفقر الذي لا يمكن أحيانًا تجاوزه لظروف هيكلية ودولية قبل أن تكون محلية.
وقد افترض الخبراء أن الفقراء غير قادرين على تحديد مصلحتهم، والتي يحددها لهم من يمتلكون المعرفة والسلطة-الحكومات والمؤسسات والخبراء-عاملين على الارتقاء بهم، ومشاركة الجماهير تنحصر في تأييد البرامج التي وضعها “الخبراء”، ويقدم الخبراء الحل البسيط للفقر: التنمية الاقتصادية ورفع مستوى الدخل، زاعمين إمكانية حل كل المشكلات الثقافية والاجتماعية المتعلقة بالفقر من خلال الاقتصاد وحده.
وقد عملت هذه الافتراضات والتوصيات على تقوية التدخل السلطوي حيث صار الفقر العالمي معضلة أكبر من أن تترك لتحل حلاً محليًا، وبذا سمحت بتدخل القوى الدولية-الحكومية و الأهلية-باسم نشر السعادة والقضاء على الفقر.
وما حدث بصورة عالمية مجردة هو أنه تمت رؤية الحاجات المطلوبة والإصلاحات الضرورية والمؤسسات المقترحة بشكل نمطي ثابت، بغض النظر عن الاختلافات الاجتماعية والثقافية، وتم فرض تلك الرؤية عن طريق شروط برامج المساعدات الأجنبية.
وقد اختلفت النتائج الفعلية لهذه السياسات والبرامج وآثارها على حياة الفقراء اختلافًا بينًا عما توقعه الخبراء والمتخصصون، حيث إن الحاجات التي تبغيها برامج التنمية هي حاجات نمط معين من الحياة، يلعب فيه الاقتصاد دورًا مركزيًا، حيث ثمة مفهوم خاص للفقر، وثمة فئة معينة من المستهلكين ودافعي الضرائب يجب حماية حقوقهم وامتيازاتهم، فشلت تلك السياسات على كل المستويات، ومن الواضح أن كل أنساق المساعدة ستخلق في النهاية مزيدًا من الفقر.
ويحذر بعض الباحثين من المفاهيم التي تبدو إيجابية من الخارج مثل: الاقتصاد العالمي أو العالم الواحد بينما هي تدعو في الواقع إلى إلغاء التعددية، وقبول أن الحل الوحيد الممكن هو اتخاذ الطريق الذي سار فيه الشمال الغني القوي السعيد.
إن النظرة الاقتصادية للحياة قد تؤدي لفترة معينة إلى زيادة ضخمة في إنتاج الأغراض والبضائع أي تنمية الأشياء، لكنه واقعيًا -بسبب الندرة الدائمة- يعاني الغني والفقير-على حد سواء-من عدم إمكانية الحصول على كل ما يريد؛ فقد اتضح لكثير من البشر أن الحاجات ليست مجرد وهم فقط بل مصطلح يخلق الشره والجشع، ومن المستحيل أن يفي الاقتصاد بكل الحاجات يومًا ما.
قد ينتج الاقتصاد الكثير من البضائع والخدمات للوفاء بمنظومة معينة من الحاجات، بيد أنه على نطاق آخر يدمر مجالات بأكملها من مجالات النشاط الإنساني، والحرف التقليدية، والقطاعات الأهلية، ويحطم منظومة قيمية كاملة من الجماعية والتراحم، من ثم فإن تأثيره الإجمالي سلبي، بل ومدمر أحيانًا خاصة عندما لا يفي بوعوده، وفي الوقت ذاته يهدم أبنية التراحم والتكافل، فلا يجدها الفرد إذا أراد التراجع والعودة له، وربما يكون النموذج البارز لذلك هو ما حدث مع مؤسسات الوقف الإسلامية في العالم الإسلامي من مصادرة وتأميم.
ولا شك أن الرؤية الإسلامية التي تحترم الحاجات الأساسية المادية للإنسان وتفرض عليه السعي للرزق وعمارة الأرض، لكنها في الوقت ذاته تربطه برؤية غيبية للرزق والقدر، لديها الكثير في هذا الباب لتقدمه خاصة مع تطوير وتفعيل فريضة الزكاة كأداة تنموية تتجاوز جمع وتوزيع الصدقات، وهذا مجال يحتاج تناولاً مستقلاً.
المصدر: أنس سليمان اغبارية.
موسوعة الإقتصاد والتمويل الإسلامي.