ذكر محمد بن يزيد المُبَرِّد ـ [ المتوفى سنة 286هـ = 899م ] ـ في كتابه " الفاضل في اللغة والأدب أنه " :
" قالت امرأة من بني أسد ترثي ابنها :
لنعم الفتى أضحى بأكناف حائلٍ *** قِرىً للصفيح الأبيض والأسلَ السمرِ
لعمري لقد أُرْديتَ غير مُزَنَّدٍ *** ولا مُغلقٍ بابَ السماحة بالعذر
فتى لم يزل مذ شدّ عقد إزاره *** مُشيدَ مَعالٍ أو مقيماً على ثغرِ
فتى لم يكذِّب فعلُه نادباتِه *** بما قلن فيه لا ولا المادح المُطْري
أرادوا ليُخفوا قبره عن عدوه *** فطيب تراب القبر دل على القبر
فيقال إن هذا أرثى بيت قالته العرب ". أهـ
وقال أبو الفرج الأصفهاني ـ [ المتوفى سنة 383هـ = 967م ] ـ في كتابه الأغاني :
" أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال : حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: أرثى بيت قالته العرب قول عبدة بن الطيب:
فما كان قيس هلكه هلك واحد *** ولكنه بنيان قوم تهدما
وتمام هذه الأبيات: أنشدناه علي بن سليمان الأخفش عن السكري والمبرد والأحول لعبدة يرثي قيساً:
عليك سلام الله قيس بن عاصم *** ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من أوليته منك نعمة *** إذا زار عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس هلكة هلك واحد *** ولكنه بنيان قوم تهدما ". أهـ
وقال أبو هلال العسكري ـ [ المتوفى سنة 395هـ = 1005م ] في كتابه " ديوان المعاني ":
" وقالوا : أرثى بيت قالته العرب ، قول متمم بن نويرة ، في أخيه مالك ، قتل في الردة، قتله خالد بن الوليد :
أخبرنا أبو أحمد ، قال : أخبرنا أبو بكر بن دريد ، عن أبي حاتم ، عن الأصمعي ، قال : كان متمم بن نويرة ، قدم العراق فأقبل لا يرى قبراً إلا بكى عنده .
فقيل له: يموت أخوك بالملا , وتبكي على قبره بالعراق ! .
فقال:
لقد لامني عند القبورِ على البكا *** رفيقي لتذارفِ الدموعِ السوافكِ
وهذا البيت غير مختار الرصف عندي وفي ألفاظه زيادة على معناه .
أمنْ أجلِ قبرِ بالملا أنت نائحٌ *** على كلِّ قبر أو على كلِّ هالكِ
فقلت له إنَّ الشجي يبعثُ الشجى *** فدعني فهذا كلهُ قبرُ مالك
يقول: قد ملأ الأرض مصابه عظماً، فكأنه مدفون بكل مكان .
وهذا أبلغ ما قيل في تعظيم المَيْت .
ومنه أخذ القائل قوله :
ـ أخبرنا به أبو أحمد ، عن ابن الأنباري ، عن ثعلب , عن الرياشي , لرجل يرثي عمر بن عبد العزيز ، وهو عندي من أرثى ما قيل . ـ
لهفي عليك للهفة من خائف *** كنتَ المجيرَ لهُ وليسَ مجيرُ
عمتْ صنائعهُ فعمَّ مُصابهُ *** فالناسُ فيهِ كلهم مأجورُ
فالناسُ مأتمهمْ عليهِ واحِدٌ *** في كلِّ وادٍ رَنَّةٌ وزفيرُ
يثني عليك لسان من لم تولِه *** خيراً لأنك بالثناءِ جدير
ردَّتْ صنائعه إليه حياتَه *** فكأنه من نشرها منشورُ
والصحيح أن يقول منشر لأنه يقال انشرالله الموتى فنشِروا هم.
وقالوا أرثى بيت قالته العرب قول المحدث:
على قَبْرِهِ بينَ القبورِ مُهابّةٌ *** كما قبلها كانَتْ على صاحبِ القبرِ
وقالوا بل قول الآخر:
أرادوا ليخفوا قَبرَهُ عن عَدُوِّه ِ *** فطيبُ تُرابِ القبرِ دَلَّ على القبرِ
وقالوا أرثاه قول ابن مناذر:
أنعى فتَى الجودِ إلى الجود *** ما مثل من أنعى بموجودِ
أنعى فتًى مصَّ الثرى بعده *** بقيّة الماءِ من العودِ
وأخبرنا أبو أحمد ، قال : سمعت محمد بن يحيى ، قال : سمعت محمد بن يزيد يقول :
لو سئلت عن أحسن أبيات تعرف في المراثي لم أختر على أبيات الخريمي:
ألم تراني أبني على الليث بنيةً *** وأحثي عليهِ التربَ لا أتخشعُ
وأعددته ذُخراً لكلِّ مُلِمَّةٍ *** وسهمُ المنايا بالذَّخائرِ مُولعُ
وأني وإن أظهرتُ مني جلادةً *** وصانعتُ أعدائي عليه لموجعُ
ولو شئتُ أن أبكي دماً لبكيتهُ *** عليهِ ولكن ساحةُ الصبرِ أوسعُ
وقال أبو عمرو بن العلاء أرثى بيت قول عبدة :
فما كانَ قيسٌ هُلكهُ هُلك واحد *** ولكنه بُنيانُ قوم تهدَّما
وقال خلف الأحمر أرثى بيت :
الآن لما كنت أكمل من مشى *** وافتر نابك عن شباة القارح
وتكاملت فيك المروءة كلها *** وأعنت ذلك بالفعال الصالح
وقال الأصمعي أرثى بيت للعرب:
ومن عجبٍ أن بتَّ مستشعرَ الثّرى *** وزدت بما زودّتني مُتمتعا
ولو أنني أنصفُتك الودَّ لم أبتْ *** خلافك حتى ننطوي في الثرى معا
ومن أحسن ما قيل في بقايا آثار الميت قول الحسين بن مطير:
فتى عيش معروُفهِ بعدَ مَوْتهِ *** كما كانَ بعدَ السيلِ مجراه مرتعا
وفي هذه القصيدة:
أيا قبرَ معنٍ كنت أولَ حفرةٍ *** من الأرض خطتْ للسماحة مضجعا
ويا قبرَ معن كيفَ واريتَ شخصه *** ولو كان حياً ضقتَ حتى تصدعا
فلما مضى معن مضى الجودُ والندى *** وأصبحَ عرنينُ المكارم أجدعا
وأنا أقول: إن هذه الأبيات أرثى ماقيل في الجاهلية والاسلام .
وقالوا:أرثى بيت قيل قول مهلهل في كليب:
نبئتُ أنَّ النارَ بعدك أوقدتْ *** واستبَّ بعدك يا كليبُ المجلسُ
وتكلموا في أمر كل عظيمة *** لو كنتَ شاهدهم إذاً لم ينبسوا
وكان كليب إذا أوقد ناراً ، لم يوقد أحداً ناراً ، ولم ينزل ضيف إلا عليه ، وإذا جلس مجلساً ، لم يتكلم فيه أحد إلا هو .
وقالوا: أحسن ما قيل في المراثي قول متمم بن نويرة في أخيه مالك:
وكنا كندْمانَي جُذيمةَ حقبةً *** من الدهرِ حتى قيلَ لن تتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً *** لطول اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً معا
وليس في المحدثين أحسن مراثي من أبي تمام ". أهـ
قوله : " لرجل يرثي عمر بن عبد العزيز ، وهو عندي من أرثى ما قيل
لهفي عليك للهفة من خائف *** كنتَ المجيرَ لهُ وليسَ مجيرُ ".
فالأبيات لشهرتها , وقع نسبتها لغير واحد من الشعراء المجيدين , وهذا حال الشعر الجيد ـ والله أعلم ـ إذا كان قائله مغمورا , فينسب للكثير من الشعراء , وخصوصا لمن عرف منهم بلون خاص من الشعر , واشتهر به , كما نسبت كل قصيدة فيها ذكر ليلى لمجنون ليلى .
مع أن التاريخ العربي دوّن من المجانين الذين تغزلوا بغير واحدة ممن اسمها ليلى أسماء عدة .
إذن , فالأبيات قد ذكرها أبو الحسن علي ابن الحسين البصري في " حماسته " , حيث قال :
" وقال الشَّمَرْدَل اللَّيْثِيّ أمويُّ الشعر
لَهْفَي عليكَ لِلَهْفَةٍ مِن خائِفٍ *** يَبْغِي جِوارَك حينَ لَيْسَ مُجِيرُ
أمَّا القُبُورُ فإنَّهُنَّ أَوانِسٌ *** بجِوارِ قَبْرِكَ، والدِّيارُ قُبُورُ
عَمَّتْ مَواهِبُهُ فعَمَّ مُصابُهُ *** فالنَّاسُ فِيه كُلُّهُم مَأْجُورُ
يُثْنِي عليَك لِسانُ مَن لَمْ تُولِهِ *** خَيْراً، لأَنَّكَ بالثَّناءِ جَديرُ
رَدَّتْ صنائِعُهُ إِليه حَياتَهُ *** فَكَأَنَّهُ مِن نَشْرِها مَنْشُورُ
فالنّاسُ مَأْتُمُهُمْ عليهِ واحِدٌ *** في كُلِّ دارٍ رَنَّةٌ وزَفِيرُ
عَجَباً لأَرْبَعِ أَذْرُعٍ في خَمْسَةٍ *** في جَوْفِها جَبَلٌ أشَمُّ كَبِيرُ ". أهـ
أما في شرح أبي علي أحمد بن محمد المرزوقي لحماسة أبي تمام , فالأبيات منسوبة لِـالتيمي في رثاء منصور بن زياد .
وأما في كتاب " نور القبس " ليوسف بن أحمد المعروف بالحافظ اليغموري , فقد قال :
" ويروى لقطرب في مرثية محمد بن منصور , وقيل لكُثير في عمر بن عبد العزيز , وقيل لبعض الأعراب :
لهفي عليك للهفةٍ من خائفِ *** كنتَ المُجير لها وليس مجير
أمَّا القبور فإنهنّ أوانسٌ *** بجوار قبرك والديارُ قبور
عَمَّتْ صنائعه فعَمَّ مُصابه *** فالناسُ فيه كلُّهم مأجورُ
والناسُ مأتمُهمُ عليه واحدٌ *** في كلّ دارٍ رنَّةٌ وزفيرُ
عمّت مصيبنهُ فصارت أسوةً *** للناس كلهم فليس صبور
يُثني عليك لسانُ من لم توله *** خيرا لأنك بالثناء جدير
ردَّت صنائعه عليه حياته *** فكأنه من نشرها منشور ". أهـ
وقوله :" قول المحدث:
على قَبْرِهِ بينَ القبورِ مُهابّةٌ *** كما قبلها كانَتْ على صاحبِ القبرِ ". أهـ
فلم أجد نسبة هذا البيت لقائله , في المراجع التي بين يدي .
و قوله : " وقالوا بل قول الآخر:
أرادوا ليخفوا قَبرَهُ عن عَدُوِّه ِ *** فطيبُ تُرابِ القبرِ دَلَّ على القبرِ ".
كذلك هذا البيت فيه إشكال في نسبته لقائله ! , فقد مرّ معك قول المبرد بأنه " لامرأة من بني أسد ترثي ابنها " , وذكر هبة الله الشجري في " أماليه " عن :
" هشام بن محمد قال: لما أجري الماء على قبر الحسين بن علي عليهما السلام , نضب بعد الأربعين يوما ً , وامتحى أثر القبر ، فجاء أعرابي من بني أسد , فجعل يأخذ قبضة ويشمه , حتى وقع على قبر الحسين فشمه وبكى ، وقال : بأبي وأمي ما كان أطيبك حياً وأطيب ترتبك ميتا ً، ثم بكى وأنشأ يقول :
أرادوا ليخفوا قبره عن صديقه *** فطيب تراب القبر دل على القبر
وهو بيت مشهور ". أهـ
أما أغلب الرواة لهذا البيت ـ وهذا استنادا على أغلب المراجع المتوفرة بين يدي ـ , فقد نسبوه لصريع الغواني مسلم بن الوليد يرثي به رجلا , والله أعلم بالصواب .
وقوله : " وقال خلف الأحمر أرثى بيت :
الآن لما كنت أكمل من مشى *** وافتر نابك عن شباة القارح
وتكاملت فيك المروءة كلها *** وأعنت ذلك بالفعال الصالح ".
فالبيتان من قصيدة لزياد الأعجم يرثي بها المغيرة بن المهلب .
وقوله : " وقال الأصمعي أرثى بيت للعرب:
ومن عجبٍ أن بتَّ مستشعرَ الثّرى *** وزدت بما زودّتني مُتمتعا
ولو أنني أنصفُتك الودَّ لم أبتْ *** خلافك حتى ننطوي في الثرى معا ".
كذلك لم أجد لها نسبا لقائلها في المراجع التي بين يدي , غير أنها لوالد يرثي بهما ابنه .
ـ المراجع :
ـ الأغاني : الأصفهاني .
ـ الأمالي الشجرية هبة الله ابن الشجري .
ـ الحماسة البصرية : علي ابن الحسين البصري .
ـ الفاضل في اللغة و الأدب : المُبَرِّد .
ـ ديون المعاني : أبو هلال العسكري .
ـ شرح ديوان الحماسة : أبو علي المرزوقي .
ـ موسوعة الشعر العربي الإلكترونية : المجمع الثقافي 2003 .
ـ نور القبس : الحافظ اليغموري .